
رواية زمن الخيوال البيضاء: حكاية قرية تختصر تاريخ شعب كامل
ملخص الكتاب
زمن الخيول البيضاء يروي كيف يتحول المكان من بيت للحياة الى ذاكرة تقاوم النسيان، وكيف يصبح سرد الحكاية فعلا من افعال البقاء.
عن الكتاب
تدور رواية زمن الخيول البيضاء لابراهيم نصرالله كملحمة حكائية طويلة النفس، تفتح نافذة على قرية اسمها الهادية في تخوم القدس، وترافقها عبر تحولات كبرى: اواخر الحكم العثماني، ثم الانتداب البريطاني، ثم اقتراب عام 1948. السرد يمشي معنا عبر ثلاثة اجيال من عائلة واحدة: محمود (كبير القرية)، ثم ابنه خالد، ثم حفيده ناجي. وبين ايديهم جميعا تقف الخيول، وبالذات الفرس البيضاء حمامة ونسلها، ليس كزينة روائية، بل كرمز حي للذاكرة والكرامة والارض التي لا تريد ان تنسى اسمها.
في بدايات الرواية، تدخل الهادية كأنها عالم كامل: حصاد وعرس ومصالحة وسهرات حكاية، وعادات تحمي الناس من التفتت. محمود هنا ليس بطلا استعراضيا، بل رجل يعرف ان قوة القرية في تماسكها: يطفئ النزاعات قبل ان تتحول الى ثارات، ويوازن بين العدل والهيبة، ويحاول ان يبقي الحياة “عادية” قدر الامكان رغم ظلال الدولة البعيدة وثقل الجباية والتجنيد والخوف من زمن يتغير. القرية تبدو كمن يزرع وهو يعلم ان الريح قد تاتي، لكنه يزرع كي لا يصدق ان الريح هي النهاية.
ومع انتقال مركز السرد الى خالد، يصير الاحتكاك بالتاريخ اكثر مباشرة واكثر قسوة. خالد يرث عن ابيه حس حماية الجماعة، لكن الادوات التي تواجهه تكبر: سلطة جديدة، قوانين جديدة، لغة ادارية لا تشبه لغة الناس. هنا تلمع حمامة، الفرس البيضاء، كقلب رمزي للرواية: خالد لا يراها “ملكية” بل “امانة”، ويعاملها كرفيقة طريق وشاهد على زمن يضيق. بياضها في السهل ليس جمالا فقط؛ انه علامة على ان الروح ما زالت قادرة على الركض، وعلى ان الارض ما زالت تتذكر اقدام اصحابها. وحين يولد نسلها لاحقا، يبدو الامر كأن الذاكرة نفسها تتناسل: من جسد الى جسد، ومن جيل الى جيل.
يدخل الانتداب البريطاني الى الهادية عبر تفاصيل تبدو ادارية في ظاهرها لكنها تجر خلفها مصائر كاملة: نقطة شرطة، تصاريح مرور، سجلات اراض، محاكم لا تفهم لهجة الناس ولا تعترف بعرفهم، وخرائط تعيد تسمية الاشياء. اهل القرية يكتشفون بالتدريج ان القانون ليس محايدا كما يقال، وان الارض التي كانت تعرف حدودها بالحجر والشجر والساقية صارت تقاس بالحبر والختم. وفي الخلفية يتصاعد ضغط الاستيطان والهجرات والمواجهات، وتتحول الطرق الى اسئلة: من يمر؟ ومن يمنع؟ ومن يقرر ان هذا الحقل لك او ليس لك؟ الرواية لا تقول ذلك كدرس تاريخ، بل كنبض يومي: ام تنتظر ابنها حين يتاخر، ورجل يراجع اوراقه كمن يراجع حياته، وقرية تشعر ان الهواء نفسه صار مراقبا.
وفي وسط هذا كله، لا يرسم الكاتب القرية كملائكة. بالعكس، يزيد تشويق الرواية انها تكشف الشقوق الداخلية ايضا: طمع، حسد، صفقات صغيرة تفتح بابا كبيرا، وخيانات لا تبدا دائما كخيانة، بل كتنازل “اضطراري” ثم يتحول الى عادة. بعض الشخصيات الثانوية تظهر وتختفي وتعود بوجه اخر، فتقول لك الرواية بصراحة: الفوضى لا تصنع ضحايا فقط، بل تصنع ايضا من يستفيدون من خراب الآخرين. وفي المقابل، هناك لحظات تضامن ترفع القلب: خبز يتقاسمه الناس، حراسة يتناوب عليها الرجال، ونساء يحملن العبء بصمت ويصنعن من الصبر قوة فعلية.
ومع مرور الزمن يشتد الخناق حتى يصل الى صور من الحصار والضغط المباشر على الهادية. هنا يصير على خالد ان يفكر في حماية الناس ليس بالسلاح وحده، بل بالحيلة وبادارة الخوف كي لا يتحول الى فوضى. وفي هذه النقطة تكتسب الخيول البيضاء معناها الاقسى: الحفاظ على الخيل ليس ترفا ولا فلكلورا، بل دفاع عن جزء من الروح. حين يسرق الغريب شيئا من القرية، لا يسرق متاعا فقط، بل يسرق رمزا من رموز الكرامة. وحين تنجو حمامة او احد احفادها، يشعر القارئ ان شيئا من المعنى نجا معها.
ثم يجيء ناجي، حفيد خالد، كابن لجيل ولد وهو يسمع الحكاية عن نفسه قبل ان يعيشها. ناجي يرث قلق الكبار قبل ان يرث احلامهم، ويكبر على سؤال ثقيل: كيف يكون لك بيت وارض، ثم ياتي زمن يجعلك تشرح لطفل لماذا صار الطريق خطرا، ولماذا صار الليل اثقل من قبل؟ ومع اقتراب 1948 تتسارع الاشارات: اخبار سيئة عن قرى اخرى، طرق تغلق، واطمئنان قديم يتآكل يوما بعد يوم. الرواية هنا لا تلاحق “حدثا واحدا” بقدر ما تلاحق حالة: كيف يتغير الانسان حين يصبح البقاء نفسه قرارا يوميا.
الجميل في زمن الخيول البيضاء انها تمزج الملحمة بالتفاصيل الحميمة: ستجد مشاهد قريبة من السينما (مجالس قرار، ليال حراسة، توتر يشتعل ثم يهدا)، وستجد ايضا سحرا ناعما في اشياء تبدو بسيطة: رائحة التراب بعد المطر، ملمس اللجام، نظرة الحصان قبل العدو، وارتجافة اليد وهي تمسك بباب البيت حين ياتي طارق مجهول. هذه التفاصيل هي التي تجعل النهاية موجعة ومضيئة في آن: موجعة لانك عشت مع الهادية كأنها بيتك، ومضيئة لان الرواية تقول ان الذاكرة حين تتحول الى حكاية تصبح شكلا من اشكال البقاء.