الحرية في زمن المراقبة الرقمية

في عالم تتدفق فيه البيانات بلا توقف، لم تعد الحرية مسألة اختيارٍ شخصي، بل معركة غير مرئية تُخاض بين الإنسان والخوارزميات.

الحرية في زمن المراقبة الرقمية

في عصرنا الرقمي الحالي، أصبحت بيانات الأفراد هي المورد الأهم و«أغلى من النفط أو الذهب».كل نقرة نقوم بها عبر الإنترنت، وكل محادثة نُجريها عبر التطبيقات المجانية تُحوَّل إلى مادة خام للشركات والحكومات لتنبؤ سلوكنا وتوجيهه.فتشير تقارير حديثة إلى أن عدد مستخدمي الإنترنت في العالم العربي وصل إلى نحو 348 مليون شخص، أي حوالي 70.2%من السكان، مع 228 مليون على وسائل التواصل الاجتماعي(Shankar,2025).هذا الانتشار الواسع للإنترنت في المنطقة يعني أن شركات التكنولوجيا والحكومات تملك كميات هائلة من البيانات عن مواطنينا، ما يثير السؤال:هل نحن فعلاً أحرار إذا كان بإمكان هذه الخوارزميات التنبؤ بخياراتنا قبل أن نقرّرها؟

تشير إحصائيات حديثة إلى أن الغالبية العظمى من تطبيقات الهواتف الذكية تجمع بيانات المستخدم لأغراض تجارية.فمثلاً، يسجّل 72.6%من تطبيقات نظام iOS بيانات خاصة بالمستخدم، وبشكل لافت فإن التطبيقات المجانية تتبَّع المستخدمين أربع مرات أكثر من التطبيقات المدفوعة(Howarth,2025).وعلى نطاق أوسع، يقدّر أن 80%من جميع التطبيقات تستخدم البيانات الشخصية في أغراض تجارية(Smith,2025)، مثل عرض الإعلانات الموجهة أو الترويج لمنتجات أخرى.ومن السياق نفسه، ارتفع متوسط العائد الإعلاني لكل مستخدم على جوجل من 1.07 دولار في 2001 إلى 36.20 دولار في 2019(Smith,2025)، مما يعكس القيمة المتزايدة التي توليها الشركات لمعلومات المستخدمين الرقمية. 

كل ذلك يوضح أن تكلفة الخدمات«المجانية»هي غالباً بياناتنا وحياتنا الخاصة.بعبارة أخرى، وفق منطق الاقتصاد الخفي للبيانات، ليست المنتجات الرقمية مجانية؛ بل نحن أنفسنا"المنتج"، حيث تدفع الشركات تكلفة تقديم الخدمة من خلال جمع البيانات وتحويلها إلى أرباح عبر الإعلانات والاستهداف الدقيق.هذا النموذج يجعل الخصوصية ثمنًا مباشرًا للراحة والسرعة، ويحوّل العلاقة بين المستخدم والمنصة إلى علاقة تبادلية غير متوازنة.

من هنا يظهر التساؤل:هل كانت حرّيّتنا كأفراد شيئاً نسيناه حين أسلمنا اتفاقيات الشروط السياسية والاجتماعية التي تقدمها تلك الشركات؟ في الواقع، يُعتبر نموذج«الإخطار والقبول»الإطار القانوني المقبول لحماية الخصوصية في كثير من الدول الغربية، حيث تُعطى للمتابع خيار قراءة شروط الاستخدام والموافقة عليها.إلا أن الدراسات تُظهر أن معظم المستخدمين لا يقرؤون هذه الوثائق الطويلة والمعقدة.ففي استطلاع لـPew(2023)على الأميركيين، اعترف أكثر من نصف المستخدمين(56%)أنهم غالباً ما يضغطون على«موافق»دون قراءة سياسة الخصوصية، حتى أن 61%يرون هذه الوثائق غير فعّالة في شرح طريقة استخدام بياناتهم(Pew Research Center,2023).وهذا يشير إلى وهم الاختيار:فنحن نظهر موافقة شكلية على تبادل معلوماتنا دون فهم حقيقي لما يتضمنه العقد بيننا وبين التطبيقات.ويمكن القول إن اعتمادنا الكامل على هذا الإطار في حماية الخصوصية هو وهم..

وفي مقابل الموافقة الظاهرة على مشاركة البيانات، هناك نوعٌ آخر من المراقبة يتم بصورة خفية.فالكثير من مصادر جمع البيانات لا تظهر للمستخدم أبداً:من أجهزة تتبع المواقع في الهواتف إلى كاميرات المراقبة في الشوارع وخوارزميات التنقيب عن الأنماط في سجلات التصفح.هذه الفجوة تُبرز الفارق بين المراقبة الاختيارية–التي«نوافق»عليها رسمياً عبر النقر(ولو بشكل سطحي)على الشروط–والمراقبة القسرية التي تحصل دون علمنا ولا موافقتنا.ففي الأولى يظنّ الشخص أنه يملك الخيار حتى ولو لم يمارسه فعلياً، أما في الثانية فحرمانه من الخيار كامل لأن البيانات تُنتزع من حوله بصمت(Lynch,2022).

خلاصة القول، الحرية في زمن المراقبة الرقمية تبدو معقّدة وغير مطلقة.فالقدرة الخوارزمية على قراءة أنماطنا سلوكنا بفعالية تعيد ترسيم حدود الإرادة الفردية.وبالمثل فإن«الخدمات المجانية»تفرض ثمناً غير نقدي:معلوماتنا الخاصة تُحوّل إلى عملة توجه الخطابات الإعلانية والسياسات العامة.وبينما نتظاهر بالموافقة الاختيارية على مشاركة بياناتنا، تبقى أدوات التتبع الخفية تُرتب معالم حياتنا دون إذننا.في ضوء ذلك، لم تعد حرية الفرد مجرد مسألة قانونية أو فلسفية، بل أصبحت أيضاً قضية تقنية وسياسية؛ فالوعي العالمي المتنامي بخطورة الأمر يدفع نحو المزيد من القوانين والتنظيمات(يذكر أن 71%من دول العالم لديها تشريعات لحماية الخصوصية(Smith,2025))، لكنّ فعالية هذه الإجراءات مرتبطة بقدرة المجتمع على تحدي اقتصادات المراقبة وجعل التكنولوجيا في خدمة الإنسان، لا العكس.في نهاية المطاف، يظل السؤال مطروحاً:هل يمكننا أن نعيد تعريف حريتنا بما يتناسب مع هذا الواقع الجديد، أم سنستسلم لتوقع الخوارزميات وقيود الشفافية المحدودة؟ الإجابة تبقى ضرورية في قلب النقاشات الأكاديمية والسياسية الراهنة حول مستقبل الحقوق الرقمية.

شاهد الفيديو للمزيد

الوسائط والمرفقات

الفيديوهات (1)
التحميلات
الحرية في زمن المراقبة الرقمية.pdf
129.9 KB