الذهب كملاذ نفسي: لماذا نركض إلى الذهب عندما نخاف؟

في كل أزمة — من 2008 إلى جائحة كورونا — كان الذهب الملاذ الأول للخائفين.

الذهب كملاذ نفسي: لماذا نركض إلى الذهب عندما نخاف؟

1.المقدمة

في عالم الاقتصاد الحديث، ورغم تعقّد الأدوات المالية وتعدد البدائل الاستثمارية، ما زال الذهب يحتفظ بمكانته الفريدة كـ"ملاذ نفسي" قبل أن يكون ملاذًا ماليًا.فهو لا يمنح المستثمر عائدًا ماديًا بقدر ما يمنحه شعورًا بالطمأنينة في مواجهة المجهول.ومن هنا، تتجلّى العلاقة الوثيقة بين سيكولوجية الإنسان وحركة أسواق الذهب، حيث تتأرجح قرارات الشراء والبيع بين غريزتين متناقضتين:الخوف والطمع.

تهدف هذه الورقة إلى تحليل كيف تتجسد تلك الغريزتين في السلوك الاستثماري، وكيف تتحول المشاعر الفردية إلى موجات جماعية تغيّر اتجاهات السوق، لتكشف في النهاية أن أسعار الذهب لا تعكس فقط الواقع الاقتصادي، بل تعكس أيضًا حالة المزاج النفسي للمجتمعات.من خلال استعراض شواهد من أزمات معاصرة كالأزمة المالية العالمية عام 2008 وجائحة كورونا 2020، تسعى الدراسة إلى فهم لماذا يصبح الذهب ملاذًا نفسيًا بامتياز كلما اهتزت الثقة بالنظام المالي، وكيف يعبّر صعوده عن نبض الخوف الجمعي لدى الأفراد والمؤسسات على حدّ سواء.

2.البعد النفسي في الاستثمار–بين غريزتي الخوف والطمع

تلعب المشاعر الإنسانية دورًا حاسمًا في قرارات الاستثمار:في فترات الازدهار الاقتصادي والسوقي، يغلب التفاؤل والطمع على المستثمرين فيبحثون عن عوائد أعلى في الأصول الخطرة(أسهم، عقارات،…)، ما يؤدي إلى عزوف نسبي عن الذهب الذي يُنظر إليه كأصل وقائي منخفض العائد.فمثلًا، خلال طفرة الأسواق بين 2003 و2007، شهدنا تراجعًا في الطلب الاستثماري على الذهب بينما اندفع المستثمرون نحو الأسهم العالمية التي حققت مكاسب قوية.أما في فترات الأزمات والركود، فيسيطر الخوف وترتفع درجة عدم اليقين، فيهرب المستثمرون من المخاطرة ويلجؤون إلى الملاذات الآمنة وعلى رأسها الذهب.هكذا رأينا في الأزمة المالية 2008–2009 كيف ارتفع سعر الذهب بأكثر من 60%خلال عامي 2008 و2009 رغم انهيار الأسهم(Investopedia,2022)–كان الخوف الجماعي من انهيار النظام المصرفي والدولار دافعًا لهجرة الأموال إلى الذهب كملاذ أخير.وبالمثل، عند ذروة هلع جائحة كورونا في مارس 2020، قفزت تدفقات الاستثمار إلى صناديق الذهب المتداولة لمستويات قياسية(حوالى+300 طن خلال الربع الأول 2020)مدفوعة ببحث المستثمرين عن الحماية، حتى بلغ إجمالي حيازات صناديق الذهب حول العالم رقمًا قياسيًا 3,185 طن في أبريل 2020(World Gold Council,2023).

هذا التأرجح الدوري يُعرف في علم التمويل السلوكي بـ“دورة المشاعر في الأسواق”(Greed&Fear Cycle).تمر الأسواق عامةً بدورات من التفاؤل المفرط(الطمع)الذي يرفع الأسعار إلى مستويات مبالغ بها، يعقبه تصحيح أو انهيار مع تبدّد الثقة وتصاعد التشاؤم(الخوف)الذي ربما يهبط بالأسعار دون قيمها العادلة، ثم لا تلبث الثقة أن تعود تدريجيًا وتتكرر الدورة.والذهب باعتباره مرآة للأمان المالي يتأثر بشدة في طرفي هذه الدورة.عند قمة الطمع، حين يعتقد المستثمرون أن"كل شيء بخير"وأن المخاطر تحت السيطرة، تنخفض حصة الذهب في المحافظ لأن حافز التحوّط يضعف–وهذا ما حصل مثلاً منتصف الثمانينات وأواخر التسعينات حيث انخفضت الأسعار الحقيقية للذهب وتراجعت أهمية الاحتفاظ به.أما عند قمة الخوف، حين يسود الشعور بأن“الكارثة وشيكة”وأن الأصول الأخرى خطرة، يتضخم الطلب على الذهب بغض النظر عن سعره لأنه يصبح ملاذًا نفسيًا بامتياز.من هنا وُصف الذهب بأنه"مؤشّر على الخوف الجمعي"في السوق:فكلما ارتفع منسوب الخوف(من أزمة مالية، أو حرب، أو انهيار مصرفي)تضاعف الإقبال على الذهب ودفع سعره صعودًا.على سبيل المثال، في أسبوع واحد من مارس 2020–ذروة صدمة كورونا–ضخ المستثمرون العالميون نحو 7.9 مليار دولار في صناديق الذهبETF، وهو تدفق أسبوعي غير مسبوق آنذاك(World Gold Council,2023)، بالتوازي مع موجة بيع هائلة في أسواق الأسهم.في ذلك الأسبوع كان مؤشر الخوف(VIX)قد وصل أعلى من 80 نقطة(مستوى هلع)، وبالمقابل اخترق الذهب حاجز 1700 دولار لأول مرة منذ 2012.إذًا هناك ارتباط نفسي قوي:الجشع يسحب السيولة بعيدًا عن الذهب، والخوف يدفع السيولة نحو الذهب.

يلعب الإعلام المالي ودورة الأخبار دورًا محوريًا في تعزيز مشاعر الخوف أو الطمع.فعند ارتفاع الأسواق، تمتلئ وسائل الإعلام بقصص الثراء السريع ونصائح"تفويت الفرصة خطأ"، مما يغذي شعورFOMO(الخوف من ضياع الفرصة)ويدفع المستثمرين لمزيد من المخاطرة وعدم الاكتراث للتحوّط.بالتالي يقل الطلب على الذهب في تلك الأوقات حيث يُنظر إليه أنه يقيد رأس المال عن فرص الربح.بالمقابل، أثناء الأزمات، تتصدر العناوين السلبية والشائعات الكارثية نشرات الأخبار على مدار الساعة، ما يضخم مشاعر الخوف وعدم اليقين لدى الجمهور.في مثل هذه الأجواء، كثيرًا ما نشاهد تقارير إعلامية توصي بشراء الذهب و”الاحتماء به”وتنقل صور تهافت الناس على محال السبائك والعملات الذهبية.وهكذا يساهم الإعلام في تكوين موجات نفسية جماعية تدفع الأسعار:فهو يغذي الطمع في الصعود ويغذي الخوف في الهبوط، مما يزيد من حدة الدورة.

3.الثقة والخوف من النظام المالي العالمي

ترتبط ارتفاعات أسعار الذهب عالميًا غالبًا بتآكل الثقة في المؤسسات المالية والعملات الورقية.فحين تهتز ثقة المستثمرين والجمهور بالأسواق التقليدية(أسهم، سندات، مصارف)أو بقدرة السلطات النقدية على إدارة الاقتصاد، يتجه الكثيرون إلى الذهب كملاذ أخير للثقة.لقد رأينا ذلك بجلاء أثناء الأزمات المالية الكبرى في العصر الحديث.في الأزمة المالية العالمية 2008 التي انهار فيها مصرف ليمان براذرز وكادت المنظومة المصرفية الأمريكية تتداعى، تراجعت الثقة بالنظام المالي لدرجة دفعت أسعار الذهب للصعود من حوالي 800 دولار في 2007 إلى 1,900 دولار في سبتمبر 2011(Investopedia,2022).صاحب تلك الفترة برامج إنقاذ حكومية وطباعة نقدية(تحفيز كمي)بمبالغ ضخمة، مما بثّ مخاوف من فقدان قيمة الدولار.كثير من المستثمرين شعروا أن العملات الورقية يمكن أن تفقد قيمتها نتيجة الإنفاق الحكومي والدين، فلجأوا إلى الذهب لحفظ ثرواتهم.ويمكن القول إن موجة شراء الذهب 2009–2011 كانت تعبيرًا عن انعدام الثقة الجماعي في وول ستريت والبنوك المركزية عقب الأزمة(Council on Foreign Relations[CFR],2023).

كذلك في أزمة جائحة كورونا 2020 حين أدت إجراءات الإغلاق إلى ركود عالمي وضخ تريليونات الدولارات كدعم اقتصادي، ساد شعور بأن النظام الاقتصادي يدخل أرضًا مجهولة.تجلّى ذلك في اندفاع المستثمرين من كافة الأحجام نحو الذهب:ارتفع سعره من حوالي 1,500 دولار في بداية 2020 إلى قمّة تاريخية بلغت نحو 2,070 دولارًا في أغسطس 2020(Reuters,2023).كان هذا مدفوعًا باعتقاد كثيرين أن التيسير الكمي سيسبب تضخمًا جامحًا أو انهيارًا نقديًا، وبالتالي فقدوا الثقة باستقرار الدولار واليورو على المدى البعيد، فاختاروا الذهب كمخزن للقيمة لا يعتمد على وعود أي حكومة(World Gold Council,2023).

هنا يظهر مفهوم مهم:الذهب كضمان نفسي ضد تقلبات العالم غير المتوقعة.عندما يشعر الأفراد أو حتى الحكومات بالخوف من أحداث غير محسوبة–حرب واسعة، وباء عالمي، انهيار مصرفي كبير–فإن الذهب يبدو كالمنارة في بحر الظلمات.فهو أصل مادي متواجد منذ القدم، حافظ تاريخيًا على قوته الشرائية في أعتى الأزمات(الحروب العالمية، الكساد الكبير)، وبالتالي ينظر إليه على أنه شبكة الأمان القصوى عندما تفشل الشبكات الأخرى.هذا الضمان النفسي يتجلى حتى لدى العامة غير المتخصصين:فمثلاً، خلال أزمة عملة محلية أو ارتفاع هائل في الأسعار، نرى إقبال المواطنين العاديين على شراء قطع ذهبية لحماية مدخراتهم البسيطة.حدث ذلك في دول واجهت انهيارًا في عملتها(مثل فنزويلا 2018 أو لبنان 2020)حيث ازدحمت محلات الذهب بالناس الراغبين بتحويل مدخراتهم إلى ذهب حين فقدوا الثقة بالعملة والبنوك.الذهب في هذه الحالات يمثل الوعد الصادق الوحيد وسط وعود الحكومات المتقلبة–فهو لا يعتمد على قرار سلطة قد تخذلهم.

كل موجة شراء للذهب تقابلها قصة ثقة مفقودة في مكان ما.ارتفاع مشتريات الذهب في 2022 لأعلى مستوى نصف قرن اقترن مع أزمة ثقة عالمية:حرب أوروبية، عقوبات، تضخم مرتفع، وخلافات جيوسياسية(World Gold Council,2023).وكذلك ارتفاع الذهب 1980 كان بعد عقد السبعينات الصعب حين فقدت الثقة بقدرة الدولار على كبح التضخم.يمكن تشبيه الذهب هنا بـ“ميزان للثقة”يعلو مؤشره كلما هبطت ثقة الناس بالمؤسسات.وقد عبّر كبير استراتيجيي الاستثمار في أحد البنوك بقوله:“عندما ترى أسعار الذهب تحلّق رغم عدم وجود عجز في المعروض أو طلب صناعي جديد، فاعلم أن المشكلة في مكان آخر–في قلوب الناس وعقولهم”.أي أن الناس يشترون الذهب ليس لأنه ينمو أو ينتج أرباحًا، بل لأنه يجعلهم يشعرون بالأمان حين لا يشعرون بالأمان في شيء آخر.وفي هذا السياق يمكن القول بحق إن“الذهب هو مؤشر للخوف الجمعي”:ارتفاعه الحاد يعني أن كثيرًا من الأفراد والمؤسسات يفقدون الإيمان بخطط السلطات وبمستقبل الاقتصاد، وانخفاضه الشديد يعني عودة الطمأنينة وربما بعض التهاون.إنه بمثابة بوصلة نفسية تشير إلى اتجاه المزاج العام:تفاؤل مفرط أو تشاؤم مفرط.

4.سيكولوجية الحشود والسلوك الجماعي في سوق الذهب

يخضع سوق الذهب–كغيره من الأسواق–لتأثيرات سيكولوجية الحشود(Herd Behavior)حيث تتحول قرارات الأفراد المتفرقة إلى موجات جماعية من الشراء أو البيع تؤدي لتقلبات واسعة بالأسعار.الفكرة هنا أن المستثمر الفرد قد يتخذ قرارًا بتأثير من قرارات الآخرين أكثر من اعتماده على تحليله الخاص، خاصةً في الأسواق التي يكتنفها عدم اليقين.وفي حالة الذهب، الذي غالبًا ما يُشترى بدافع عاطفي(خوف أو طمع كما أسلفنا)، تكون القابلية للانخراط في سلوك القطيع عالية.

كيف تتشكل هذه الموجات؟ لنفترض بدء أزمة ما–مالية أو جيوسياسية–يقوم عدد من المستثمرين الكبار بتحويل جزء من محافظهم إلى ذهب(حركة تحوّط).ترصد وسائل الإعلام ذلك وتبدأ بالحديث عن“عودة الذهب”.يسمع مستثمرون آخرون هذه الأخبار ويخشون أن يفوتهم الركب أو أن يبقوا مكشوفين للمخاطر، فيقومون بالمثل بشراء الذهب.مع تزايد الطلب يرتفع السعر، فـيجذب ذلك مستثمرين جدد(حتى من لم يكونوا مقتنعين بشدة في البداية)إذ يرون السعر يصعد فيخشون ضياع فرصة الربح–فينضم مزيد من الناس إلى موجة الشراء.هكذا تتعاظم الموجة ككرة الثلج.وتلعب الإشاعات والتوصيات والشخصيات المؤثرة دور المسرّع.فمجرد شائعة عن“نيّة بنك مركزي آسيوي شراء 100 طن ذهب”قد تدفع مضاربين إلى اقتناء عقود الذهب تحسبًا للارتفاع، ما قد يحقق النبوءة ذاتيًا.وكذلك تصريحات من مستثمرين مشاهير(مثلاً إعلان مدير صندوق كبير أنه زاد انكشافه على الذهب)تؤثر في صغار المستثمرين الذين قد يقلدون“الكبار”.وفي عصر التواصل الاجتماعي، تنتشر توصيات الاستثمار بسرعة البرق، فيكفي منشور في تويتر أو منتدى مالي يتحدث عن“قرب صعود هائل للذهب”ليندفع آلاف صغار المتداولين للشراء، ما يساهم أحيانًا بخلق قفزات سعرية لحظية.هذا الأسلوب في تأثير الحشود معروف وقد أدى إلى فقاعات في عدة أسواق(آخرها أسهم الميم والعملات المشفرة)، وبالنسبة للذهب فهو أقل تطرفًا لأنه سوق ضخم، لكن تبقى الموجات النفسية عاملًا جوهريًا في حركته.

لننظر إلى دراسة حالات تاريخية توضح سلوك الحشود في سوق الذهب:

أولا:جائحة كورونا 2020:شهدت بداياتها نمطًا مشابهًا–بيع أولي لكل الأصول بما فيها الذهب في مارس 2020 لزيادة السيولة(فنزل الذهب من حوالي 1650 دولارًا إلى 1450 دولارًا خلال أيام معدودة)، ثم ما لبث أن انطلق في ارتفاع قياسي مع إدراك المستثمرين لحجم الأزمة الصحية والاقتصادية(World Gold Council,2023).شجعت سياسات البنوك المركزية(خفض الفائدة إلى الصفر وتيسير كمي هائل)الجمهور على التوجه للذهب حمايةً من التضخم المتوقع.كما لعب الإغلاق العام دورًا في توجيه سلوك الحشود:فمع جلوس ملايين الأشخاص في منازلهم ومتابعة الأخبار المقلقة، تصاعد اهتمامهم بالاستثمار البديل.وفعلاً ارتفعت عمليات البحث على جوجل عن شراء الذهب والعملات الذهبية بشكل كبير في 2020.الكثيرون ممن لم يشتروا ذهبًا من قبل قرروا الشراء في تلك الفترة كملاذ.النتيجة:ارتفع الذهب بحوالي 35%خلال أقل من 6 أشهر محققًا أعلى سعر تاريخي في أغسطس 2020(Reuters,2023).ويمكن القول إن تلك الأشهر مثّلت ذروة الخوف الجمعي عالميًا منذ الحرب العالمية الثانية، والذهب كان المستفيد الأكبر كسلوك قطيع عالمي نحو الملاذ.

ثانيا:حرب أوكرانيا 2022:خلال الأسابيع الأولى من الحرب وتصاعد الحديث عن احتمال مواجهات أوسع وربما استخدام نووي تكتيكي، كان هناك طلب محموم على الذهب في أوروبا وروسيا.الأوروبيون خشوا امتداد الحرب وعدم اليقين الاقتصادي الناتج عنها(خاصة مع أزمة الطاقة)، فارتفع شراء الأفراد للسبائك والعملات بشكل ملحوظ في ألمانيا وبريطانيا.أما في روسيا، فالمواطنون بعدما انهار الروبل أولاً، اصطفّوا في طوابير أمام محال الصرافة ومحلات الذهب لشراء ما يستطيعون من ذهب ودولارات.وقد ذكرت تقارير محلية ارتفاع مبيعات سبائك الذهب الصغيرة في موسكو بأكثر من 6 أضعاف خلال مارس 2022 مقارنة بالعام السابق.هذا السلوك الجمعي دعم سعر الذهب عالميًا الذي بلغ 2,070 دولارًا للأونصة في 8 مارس 2022 مقتربًا جدًا من رقمه القياسي(Reuters,2023).حتى بعد تراجع حدة الذعر واستقرار الأسعار حول 1800–1900 دولار بقية العام، بقي الطلب الاستثماري على الذهب مرتفعًا عن المتوسط، مدفوعًا باستمرار حالة عدم اليقين الجيوسياسي.

5.الخاتمة

يُظهر تحليل سلوك الأفراد والمؤسسات في أوقات الأزمات أن الذهب لا يُشترى بالعقل وحده، بل بالعاطفة قبل كل شيء.فارتفاعه لا يعكس دائمًا نقصًا في المعروض أو تغيّرًا جوهريًا في قيمته المادية، بقدر ما يعكس تحوّلات في المزاج النفسي الجمعي الذي يحكم علاقة الإنسان بالخطر والثقة.حين يسود الخوف وتغيب اليقينيات، يصبح الذهب تمثيلًا ملموسًا للأمان؛ وحين يطغى التفاؤل والطمع، يتراجع الاهتمام به لصالح الأصول التي تعد بعوائد أكبر.

لقد بينت التجارب التاريخية–من أزمة 2008 إلى جائحة كورونا 2020، وصولًا إلى الحرب الروسية الأوكرانية–أن الطلب على الذهب يتصاعد كلما تآكلت الثقة بالنظام المالي العالمي.فالذهب، في جوهره، ليس مجرد أصل مالي تحركه المؤشرات والأسعار، بل مؤشر نفسي لعمق القلق الجماعي من المستقبل الاقتصادي.إنه يُجسّد ما يمكن تسميته بـ“الملاذ النفسي”، حيث يشتري الناس المعدن الأصفر ليس بدافع الكسب، بل بدافع استعادة الشعور بالسيطرة في عالم مضطرب.

كما أظهرت الورقة أن الإعلام والحشود والموروث الثقافي جميعها تساهم في تكوين دوائر نفسية متكررة من الخوف والطمع، تجعل حركة الذهب مرآة لدورة العاطفة الإنسانية نفسها.في لحظات الذعر، تتحد قرارات الأفراد رغم اختلاف خلفياتهم الثقافية والاقتصادية، في اندفاع جماعي نحو الذهب كأنهم يستجيبون لغريزة بدائية مشتركة:غريزة البقاء المالي.

في المحصلة، يمكن القول إن قيمة الذهب تتجاوز معادلات السوق؛ فهو مقياس دقيق لدرجة الثقة في المستقبل، ولحالة الأمان الداخلي لدى المجتمعات.وعليه، فإن فهم ديناميات الخوف والطمع في سلوك المستثمرين لا يساعد فقط على تفسير تقلبات أسعار الذهب، بل يكشف كذلك عن الطبيعة العميقة للإنسان حين يواجه المجهول—إنسانٌ يسعى دائمًا، وسط فوضى العالم، إلى شيءٍ يلمع ولا يزول.

لمشاهدة الفيديو وتحميل الورقة البحثية يرجى التمرير للأسفل

الوسائط والمرفقات

الفيديوهات (1)
التحميلات
الذهب كملاذ نفسي- لماذا نركض إلى الذهب عندما نخاف؟.pdf
259.5 KB