يقدّم الاتحاد الأوروبي اليوم نموذجاً فريداً في استخدام التشريعات ليس لتنظيم السوق فحسب، بل لبناء قوته الاقتصادية وإعادة تشكيل موقعه في العالم.في لحظة عالمية مضطربة—تسارع تكنولوجي، أزمات جيوسياسية، واضطرابات سلاسل الإمداد—أدركت بروكسل أنّ نفوذها الحقيقي لا يكمن في القوة العسكرية، بل في قدرتها على صياغة قواعد تُصبح مع مرور الوقت قواعد الجميع.
السوق الأوروبية الموحّدة التي تضم أكثر من 450 مليون مستهلك، وتمثل 18%من الاقتصاد العالمي، تحوّلت إلى منصة ضخمة تفرض معاييرها على الشركات العالمية التي تجد نفسها مضطرة للامتثال، لأن تجاهل أكبر سوق موحدة في العالم لم يعد خياراً اقتصادياً ممكناً.
هذا ما يُعرف بـ"تأثير بروكسل"، حيث تنتقل التشريعات الداخلية إلى العالم الخارجي بدون جهد إضافي.يظهر ذلك بوضوح في نظام حماية البيانات GDPR الذي فرض غرامات وصلت إلى 5.88 مليار يورو، وأجبر أكثر من 20 مليون شركة حول العالم على تعديل أنظمتها.
وبشكل شبيه، أصبحت المعايير الأوروبية للغذاء والبيئة الأصل الذي تُقاس عليه صادرات دول بعيدة مثل تركيا والصين ودول إفريقيا، إذ تخضع الواردات لنفس معايير السلامة والبيئة المطبّقة داخل أوروبا، ما أدى في حالات عديدة إلى خروج شركات غير قادرة على تحمّل كلفة الامتثال.أما في المنافسة، فقد فرض الاتحاد على غوغل وحدها غرامات تجاوزت 11 مليار يورو بسبب إساءة استخدام موقعها المهيمن، ما اضطر الشركة إلى تعديل منتجاتها على نطاق عالمي، لا أوروبي فقط.
لكن أكثر أدوات القوة التشريعية الأوروبية طموحاً هو ما تسميه الورقة“السلاح الأخضر”.فالصفقة الخضراء الأوروبية أعادت تعريف السياسة المناخية باعتبارها سياسة صناعية أيضاً.نظام تجارة الانبعاثات ETS، الذي يغطي 40%من انبعاثات القارة، جعل الكربون تكلفة مباشرة للإنتاج.ومع آلية الكربون على الحدود CBAM، باتت السلع المستوردة تدفع تكلفة الانبعاثات نفسها المفروضة على المنتجين الأوروبيين، ما يعني فعلياً إجبار الدول المصدّرة على تحسين تقنياتها أو خسارة السوق الأوروبية.وتشير تقديرات إلى أن واردات الألمنيوم والأسمدة المشمولة بالآلية ستنخفض بين 4%و26%خلال السنوات المقبلة، فيما تسعى دول مثل الصين وروسيا إلى تعديل مزيج إنتاجها للحد من الانبعاثات كي لا تفقد حصتها السوقية.
هذا التحول التشريعي يمتد أيضاً إلى قطاع السيارات، حيث حدّد الاتحاد هدفاً بأن تكون انبعاثات السيارات الجديدة صفراً بحلول 2035، ما أدى بالفعل إلى ارتفاع حصة السيارات الكهربائية إلى 15.5%من تسجيلات 2023، وإلى إعادة توجيه خطوط الإنتاج العالمية نحو أوروبا.
ومع أزمات الطاقة والحرب في أوكرانيا، اتخذ التشريع دوراً أقرب إلى“درع اقتصادي”.فخلال عامين فقط، انخفض اعتماد أوروبا على الغاز الروسي من 45%إلى نحو 15%بفضل تشريعات التخزين الإلزامي وتنويع مصادر الطاقة.وعلى المسار نفسه، يهدف قانون الرقائق الأوروبية إلى مضاعفة حصة الاتحاد من الإنتاج العالمي إلى 20%، فيما يفرض قانون المواد الخام الحرجة أهدافاً لاستخراج ومعالجة ما يصل إلى 40%من الاحتياجات داخل القارة بحلول 2030.ومع 199 إجراءً من إجراءات مكافحة الإغراق والدعم غير العادل، تحمي بروكسل اليوم أكثر من 625 ألف وظيفة في الصناعات الحساسة مثل الفولاذ والألومنيوم والمواد الكيميائية.
ويتجاوز التأثير الأوروبي حدود الاقتصاد ليصل إلى السياسة والقيم.فالاتحاد يستخدم الوصول إلى سوقه كأداة ضغط لفرض تحسينات في حقوق العمال والبيئة عبر ما يُسمّى“التجارة المشروطة”.فيتنام، مثلاً، غيّرت قوانين العمل وصادقت على اتفاقيات دولية أساسية مقابل استفادتها من الاتفاق التجاري مع الاتحاد، بينما خسرت كمبوديا وسريلانكا امتيازات تجارية واسعة بسبب انتهاكات حقوق الإنسان.حتى الاتفاق مع تكتل ميركوسور لا يزال معلقاً إلى حين تقديم التزامات قوية لمنع إزالة الغابات في الأمازون.
مع ذلك، لا تخفي الورقة حدود القوة التنظيمية الأوروبية.فالتشريع وحده لا ينتج التكنولوجيا.أوروبا ما زالت متأخرة في سباق الذكاء الاصطناعي، وفي خلق شركات رقمية عملاقة، وفي تمويل الأبحاث بالمستوى الذي تنافس به الولايات المتحدة أو الصين.إنفاقها على البحث والتطوير لا يتجاوز 2%من الناتج المحلي، مقابل 3.5%في الولايات المتحدة، ما يؤدي إلى تسرب آلاف الباحثين إلى الخارج سنوياً.ولهذا تؤكد الورقة أن الحفاظ على التفوق الاقتصادي الأوروبي يتطلب الجمع بين قوة التشريع وقوة الاستثمار والابتكار، وإلا ستتحول أوروبا إلى قوة تضع القواعد لكنها تعتمد على الآخرين في إنتاج التكنولوجيا التي تُحكمها تلك القواعد.
في النهاية، يكشف هذا التحليل أن الاتحاد الأوروبي يبني نموذجاً غير مسبوق يجمع بين التشريعات الخضراء، وحماية المستهلك، والأمن الاقتصادي، والتأثير الدولي، لكنه نموذج قائم على توازنات دقيقة:بين حماية البيئة وتكلفة الصناعة، وبين الانفتاح التجاري والحمائية، وبين نشر المعايير واحترام حساسية الشركاء.نجاح أوروبا في هذا المسار سيحدد ما إذا كانت ستبقى لاعباً مركزياً في الاقتصاد العالمي أم ستتراجع أمام القوى التكنولوجية والصناعية الصاعدة.
للاطّلاع على الفيديو وقراءة الورقة التحليلية الكاملة، يُرجى التمرير إلى الأسفل

التعليقات