هل تعيد الهجرة تشكيل هويتنا… دون أن نشعر؟

الهجرة لا تنقل الإنسان من مكان إلى آخر فقط؛ إنها تعيد ترتيب داخله، وتشكّل طبقة جديدة من الهوية فوق ما كان يعرفه عن نفسه.

هل تعيد الهجرة تشكيل هويتنا… دون أن نشعر؟

بحسب تقارير الأمم المتحدة الأخيرة، بلغ عدد المهاجرين دوليًا نحو 280 مليون شخص(2020).وهنا ينشأ مفهوم الهوية الهجينة في مواجهة المهاجر/العربي المقيم في عالم متعدد الثقافات، حيث تتشابك فيه المراجع اللغوية والوطنية والقيمية.يُشير ستيوارت هول(1996)إلى أن الهوية ليست ثابتة، بل هي عملية تمثيل متطورة تتفاوض يوميًا بين«الذات»و«الآخر»وعندما يعيش الفرد بين ثقافتين، فإنه يُضطر للتوفيق بين موروثه الثقافي الأصلي ومتطلبات الهوية الجديدة، ما يؤدي إلى خلق هوية مختلطة.هذا الإطار النظري يوضح أن الشخص بين ثقافتين يختبر صراعًا داخليًا عميقًا بين جذوره وواقع الغربة، فتظهر دلالة مزدوجة للانتماء والشعور بالضياع في الوقت نفسه.

أولا:بين شعور الانتماء والضياع

عند العيش بين ثقافتين، يتحرك الفرد في فضاء رمزي ثالث(third space)لا ينتمي كليًا إلى الأصل أو المضيف.يصف المفكر إدوارد سعيد هذا الأمر بـ«المنفى الداخلي»، حيث يشعر المهاجر بالاغتراب عن وطنه الأصلي دون أن ينتمي تمامًا إلى المجتمع الجديد(Said,1993).ففي بدايات الهجرة قد يعاني الشخص من أزمة هوية تنعكس في صراع وجداني:فحسب دراسة(غوريفا وكينونن، 2014)، يؤدي فقدان شبكات الدعم الاجتماعي والعادات المألوفة إلى شعور عميق باللاانتماء، يصاحبه اكتئاب وقلق وجودي.وفي الوقت نفسه، تلعب الذاكرة الجمعية دورًا مركزيًا في غرس حنين دائم؛ فالمهاجر يحمل معه رائحة الطعام أو لحنًا من طفولته كرمز ثقافي لوطن افتراضي(Cohen,1997).

تشير دراسات ميدانية إلى أن نحو 68%من المهاجرين يعانون من صراع داخلي بين الحنين إلى الماضي ومحاولة الاندماج في المجتمع المضيف(أبوالفتوح، 2015).هذا الصراع يولد لدى البعض إحساسًا بمكان مزدوج ينتمون إليه جزئيًا، فيما يشعر آخرون بتمزق الهوية بين بيئتين.فبينما يعتبر بعض الجيل الثاني من المهاجرين أنفسهم«كنديّين-عرب»أو«أمريكيين-عرب»، وهو ما يعكس تكاملًا ثقافيًا بنّاءً، قد يشعر غيرهم بعدم انتماء إلى أيٍّ منهما بالكامل.إن هذه الحالة المزدوجة تتيح للفرد مرونة في التنقل بين الهويّتين، لكنّها في الوقت نفسه تضع تحديات نفسية وأيديولوجية حول«أنا»المتناقضة(مبارك، 2020).

من ناحية أخرى، تؤدي سياسات الاندماج ودرجة التقبّل المجتمعي دورًا مهمًّا في تحديد ما إذا كان هذا التناقض سيُسهم في شعور بالثنائيات أو في إيجاد مساحة مشتركة للهوية.فالمهاجر الذي يحظى بدعم مؤسساتي وإعلامي متنوع يجد فرصًا أكبر لاحتضان«أنا عالمية»دون التخلي عن«أنا موطنه»، في حين أن عدم الاستقرار القانوني والتمييز يُضعف الشعور بالانتماء إلى أيٍّ من العالمين.مثلاً، أظهرت دراسة أوروبية أن السوريين الذين اعتبروا هويتهم«هوية البلد المضيف»–أي امتلاك شعور قوي بالانتماء النفسي والاجتماعي إلى تركيا–نجحوا في مشاريعهم الخاصّة وكان أداؤهم المالي أفضل(الجزيرة، 2017).بالمقابل، عندما يُؤجل منح الحماية القانونية أو يستمر التمييز، تضعف درجة الانتماء الوطنية بشكل متراكِب حتى بعد تحقيق الوضع القانوني(الجزيرة، 2017).

ثانيا:الهوية المهجنة:مرونة أم تمزق؟

تأتي الإجابة على هذا السؤال مركّبة، إذ يمكن النظر إلى الهوية الهجينة كعنصر قوة مرن(Resilience)في حياة المهاجرين، وفي الوقت نفسه كعبء نفسي ثقيل.من زاوية الميزة، توفّر الهوية المختلطة مرونة وقدرة على التكيف في البيئات المتعدّدة الثقافات؛ حيث يوسع الشخص شبكاته الاجتماعية ويتعرّف على قيم متعددة، ويصبح وسيطًا ثقافيًا(Cultural Mediator)بين مجموعتين.فالتجارب البحثية تؤكد أن ثنائية الثقافات تمنح أصحابها إبداعًا أكبر وقدرةً على النجاح المهني.فعلى سبيل المثال، وجد غروجان(2013)أن ذوي الهويات الثقافية المزدوجة أبدعوا أفكارًا أكثر وتفوّقوا في المشاريع مقارنة بغيرهم.وقد فسّر الباحثون ذلك بزيادة«التعقيد التكاملي»لديهم–أي القدرة على الجمع بين وجهات نظر متعددة–مما يجعلهم مبدعين في حل المشكلات ويرفع من فرصهم في النجاح الوظيفي.كما يساهم التهجين الثقافي في تطوير مهارات عقلية مثل التنوّع المعرفي والتسامح مع المعلومات الغامضة، ما ينعكس إيجابًا على الأداء الشخصي والمهني(وليامز، 2012).

بالرغم من ذلك، يمثل العيش بين عالمين تحدًٍّّا نفسيًّا ملحوظًا.إذ تسلط الدراسات الضوء على التكاليف العاطفية للشخص المهاجر الذي يعيش«حياة مزدوجة».حيث يُحذّر بعض الخبراء من أن توليد«هوية هجينة خاطئة»يمكن أن يؤدي إلى اضطراب نفسي إذا لم يستطع الفرد التوفيق بينها وبين واقع المجتمع المضيف(سوديمان، 2021).ويصف الطبيب النفسي ميرتن سوديمان(2021)هذه الحالة بأنها«مرهقة»، لأنها تحوّل حياة الفرد إلى معادلة صعبة بين هويّته الأصلية وهويّة الاندماج.فالمهاجر، وفق هذا الرأي، يعيش في حالة تكيف مستمر بين ثقافتين، ما قد يستنزف طاقته العقلية والعاطفية ويزيد خطر الإصابة بالإحباط والاكتئاب.يزداد هذا العبء إذا شعر المهاجر بأن المجتمع المضيف لا يرحب به بالكامل، أو إذا اضطر إلى تجاهل جانب من هويته لتجنّب التمييز، مما يزيد من شعوره بالانقسام الداخلي.

بشكل عام، الهوية المهجنة تُمثِّل سيفًا ذا حدّين:فهي من جهة تمنح المرونة والإبداع وتمكّن الشخص من التأقلم بفعالية في بيئتين، ومن جهة أخرى قد تسبب ضغطًا نفسيًّا واحتياجًا أكبر للتوفيق بين القيم المتضاربة.ولذلك فإن النتائج البحثية تؤكد أن العوامل المحيطة–كالسياسات الإيجابية للاندماج، وتوفير الدعم الاجتماعي والإعلامي المتنوّع–تلعب دورًا حاسمًا في تحويل الهوية المهجنة من عبء إلى ميزة(الأمم المتحدة، 2020؛ الجزيرة، 2017).فعندما تقبل المجتمعات المضيفة الهوية المزدوجة وتدعّمها، يمكن للفرد أن يحتفظ بجذوره ويستوعب الجانب العالمي بسلاسة أكبر، وبالتالي يشعر بقوّة مرونته الثقافية بدلاً من شعور التمزّق.

ثالثا:الشباب والهوية المتعددة:بين العربي والعالمي

جيل اليوم من الشباب العربي نشأ وسط انفجار رقمي وثورة معلوماتية جعلت العالم قرية واحدة.فالتكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي أزالت الحدود الجغرافية والثقافية أمامهم.وتشير دراسات ميدانية إلى أن أكثر من 68%من طلبة الجامعات المصريين والخليجيين يستخدمون منصات التواصل لأكثر من 60 ساعة أسبوعيًا(الجزيرة مباشر، 2018).لم تعد هذه المنصات مجرد وسيلة ترفيه؛ بل أصبحت قوة تأثير رئيسية تشكل الذوق العام وقيم النجاح وصورة القدوة.ونتيجة لذلك، تشكّلت لدى كثير من الشباب هوية جديدة دون جذور واضحة، يعتمدون على تبنّيها بعيدًا عن إشراف الأسرة أو المدرسة.

ينشأ عن هذا الواقع صدام بين«أنا العربية»التقليدية التي تنتمي إلى الأسرة والقبيلة والقيم المحلية، و«أنا العالمية»التي تتسرب عبر شاشة الهاتف وتعكس ثقافات ورؤى متعددة.فالشاب اليوم يعيش أحيانًا بهويتين متناقضتين:هوية ظاهرية منضبطة أمام أسرته ومجتمعه، وهوية رقمية أكثر تحررًا يتبناها خلف أسماء مستعارة(الجزيرة مباشر، 2018).هذه الثنائية تضع جيلًا كاملاً بين عالمين، الأمر الذي قد يضعف شعور الانتماء الوطني ويُغذي أحلام الهجرة والانسلاخ نحو ما يُعتقد أنه«الغرب الأفضل»(الجزيرة مباشر، 2018).بيد أن الجانب الإيجابي لهذه الظاهرة هو أن الشباب يطورون قدراتهم على الابتكار والتكيف عبر الفضاءات الهجينة الرقمية.فكما وجدت دراسة حديثة، فإن هوية الشباب تتميز بالجدلية والسيولة؛ فهي تتشكل من مفاوضات دينامية بين الاتجاهات العالمية والمرجعيات الثقافية المحلية.وتعمل وسائل التواصل الاجتماعي كفضاءات تجريبية لهوياتهم، تمكنهم من مزج لغاتهم وعاداتهم مع قيم عالمية جديدة(العين الجامعي، 2020).

بالتالي، يتعامل جيل اليوم مع«العربي»و«العالمي»عبر سعيه لخلق توازن بين الأصالة والانفتاح.بعض الشباب يوظف المنصات الرقمية لنشر ثقافته المحلية بطرق جذابة، فيما يتبنى آخرون ممارسات عالمية دون التخلي تمامًا عن هويتهم الأصلية.الخلاصة أن أزمة الهوية لا تكمن في انفتاح الشباب على العالم، بل في عدم وجود مشروع ثقافي محلي يجسّد هذا الانفتاح بشكل متوازن(الجزيرة مباشر، 2018).فإذا نجح المجتمع في استثمار التكنولوجيا لصالح الهوية المحلية(مثل إنتاج محتوى رقمي أصيل وجذاب)، فإن العولمة الرقمية يمكن أن تصبح فرصة لتجديد الهوية بدلاً من طمسها.

رابعا:الخلاصة: 

الهوية الهجينة هي نتاج حتمي للعولمة والحركة البشرية المكثفة.إن شخصًا يعيش بين مرجعيات ثقافية متعددة سيختبر شعورًا مزدوجًا بالانتماء والاغتراب في آن واحد.وقد يكون هذا التوفيق بين الثقافات عنصر قوة ومرونة يعزز الإبداع والنجاح الشخصي، وفي الوقت نفسه عبئًا نفسيًّا يفرض ضغوطًا إضافية على الفرد.إن معالجة هذه الظاهرة تتطلب إدراكًا مجتمعيًا وسياسيًا لدعم الهويات المتعددة–مثلاً عبر سياسات اندماج إيجابية وتعزيز الحوار الثقافي والتعليم متعدد الثقافات–بحيث يحافظ المهاجر والشاب العربي على رابطهما بتراثهما المحلي مع استثمارهما للشبكات العالمية.فمن خلال استثمار هذا التوازن بين«الأنا العربية»و«الأنا العالمية»، يمكن للهوية المهجنة أن تتحول من مصدر تمزق إلى جسر يثري التجربة الإنسانية ويساعد الأفراد على بناء هويات متكاملة ومبدعة.

شاهد الفيديو للمزيد

الوسائط والمرفقات

الفيديوهات (1)
التحميلات
من الغربة إلى الانتماء_ كيف تعيد الهويات الهجينة تشكيل تجارب المهاجرين في يومنا؟.pdf
128.2 KB