في مثل هذا اليوم، 24 ديسمبر 1979، عبرت دبابات سوفييتية نهر امو داريا الى افغانستان، في خطوة بدت حينها تدخلا محدودا لحماية حليف، لكنها سرعان ما تحولت الى حرب طويلة اعادت تشكيل خرائط الحرب الباردة ومفاهيم الامن والهجرة والتحالفات لعقود لاحقة.الغزو السوفييتي جاء في اواخر ديسمبر 1979 دعما لحكومة شيوعية افغانية كانت تواجه تمردا مسلحا، وان الوجود السوفييتي استمر حتى فبراير 1989.لكن اهمية التاريخ لا تكمن في البدء فقط، بل في ما صنعه القرار من سلاسل اثر:كيف يمكن لتدخل طويل ان يفتح ابوابا لاصطفافات جديدة، وينتج اقتصاد حرب، ويحوّل الممرات والحدود واللاجئين الى عناصر ثابتة في السياسة الدولية.
كانت افغانستان في اواخر السبعينيات تعيش اضطرابا سياسيا عميقا بعد وصول حزب ديمقراطي شعبي موال للسوفييت الى الحكم.الاصلاحات السريعة والقمع والصراع داخل السلطة اشعلت مقاومة واسعة، وبدأت موسكو تخشى انهيار الحليف على حدودها الجنوبية.بحسب عرض مكتب المؤرخ في الخارجية الاميركية، كان صانع القرار السوفييتي يرى ان خسارة افغانستان تعني اقتراب خصومه من حدوده وتهديد توازن الحرب الباردة في جنوب اسيا.هنا تبدأ سلسلة الاثر الاولى:قرار تدخل طويل لا يعالج الازمة الداخلية بقدر ما يدولها.فبدلا من صراع محلي على السلطة، اصبحت افغانستان ساحة يراقبها العالم بعيون معسكرين:موسكو تريد تثبيت حكومة صديقة، وواشنطن تريد منع تمدد نفوذ السوفييت.
بعد الدخول مباشرة، تحولت الحرب الى استنزاف.القوات السوفييتية امتلكت تفوقا ناريا وتنظيميا، لكن طبيعة افغانستان الجبلية، وانتشار المقاومة، وتعقيد المجتمع المحلي جعلت السيطرة الدائمة شبه مستحيلة.وبدل حسم سريع، طال الزمن، وارتفعت الكلفة البشرية والاقتصادية، وتراجعت شرعية الحكومة التي تحميها الدبابات.في الوقت نفسه، اتخذت الولايات المتحدة وحلفاء اقليميون مسارا اخر:دعم قوى المقاومة عبر قنوات متعددة، خصوصا عبر باكستان.وصف الخارجية الاميركية لتلك المرحلة يوضح كيف انتقل الصراع من قرار سوفييتي داخلي الى ملف دولي ضخم يختلط فيه التمويل والتسليح والاستخبارات.من هنا نفهم كيف تصنع قرارات التدخل الطويل اقتصاد حرب وممرات امداد وشبكات نفوذ، ثم تتركها بعد ذلك كواقع قائم يصعب تفكيكه.
السلسلة الثانية كانت انسانية بامتياز:الهجرة القسرية كاثر سياسي طويل.تصف مواد UNHCR ان افغانستان كانت بحلول نهاية 1979 قد شهدت نزوحا كبيرا:نحو 400 الف لاجئ الى باكستان و200 الف الى ايران، ثم تضاعفت الاعداد بسرعة في العام التالي لتصل الى ملايين.هذه الارقام ليست هامشا؛ هي مفتاح لفهم كيف تصبح دولة بكاملها منتجا للهجرة المزمنة.واللافت ان الاثر لم ينته مع انسحاب السوفييت، لان انهيار الدولة وتعدد الحروب اللاحقة جعلا اللجوء يتجدد جيلا بعد جيل.حتى في احصاءات حديثة، تشير مؤسسة Migration Policy Institute الى ان قرابة 6.1 مليون لاجئ افغان حول العالم، وان نحو 90%منهم يقيمون في ايران او باكستان، مع استمرار افغانستان كمصدر كبير للنزوح في العقود الاخيرة.
السلسلة الثالثة كانت جيوسياسية:اعادة تعريف الامن والتحالفات.دخول السوفييت دفع واشنطن الى التشدد في قراءة المنطقة بوصفها عقدة استراتيجية مرتبطة بالطاقة والممرات والحدود، وساهم في توسيع اهتمامها العسكري بالاقليم.كما دفع دولا اقليمية الى اعادة تموضعها:باكستان كحليف محوري في جنوب اسيا، واطراف اخرى كداعمين او ممولين او وسطاء.وبمرور الوقت، لم تعد افغانستان ملف دولة واحدة بل نقطة تقاطع بين صراعات اكبر:نفوذ، حدود، ايديولوجيا، وتنافس على من يملك حق تعريف الخطر.وهذا هو جوهر السؤال:من يحدد التهديد ومن يحدد الحل؟ في تدخلات طويلة، غالبا لا يعود الشعب وحده صاحب القرار، بل تتحول البلاد الى ساحة تتزاحم فوقها مصالح لا تنتهي.
وفي النهاية، حين انسحب السوفييت في 1989، لم يعد العالم كما كان قبل 1979:الاتحاد السوفييتي نفسه كان يتجه الى تفكك بعد سنوات قليلة، والولايات المتحدة خرجت اكثر ثقة بنجاعة الحروب غير المباشرة، بينما تركت افغانستان في قلب هشاشة دولة طويلة.

التعليقات