منذ أكثر من عقد، مثّل الوجود التركي في سوريا واحدًا من أكثر ملفات النفوذ الإقليمي تعقيدًا في الشرق الأوسط.لكن عام 2025 حمل تحوّلًا جذريًا في هذا الدور؛ فأنقرة لم تعد تتصرف كقوة عسكرية ميدانية تسعى للسيطرة المباشرة، بل كمهندسٍ سياسي وأمني يعيد رسم موازين القوى عبر ترتيبات دقيقة وشبكات نفوذ لوجستية.
بدأ هذا التحول مع تراجع العمليات العسكرية وتنامي الانخراط في قنوات أمنية مباشرة مع دمشق، ما أنهى أكثر من عشر سنوات من القطيعة.فقد زار وزراء الخارجية والدفاع والاستخبارات الأتراك العاصمة السورية لأول مرة منذ اندلاع الحرب، في مؤشر على نقلة براغماتية في العلاقات بين أنقرة والحكومة السورية الجديدة.
ترافق ذلك مع اتفاق دمج قوات سوريا الديمقراطية(SDF)ضمن مؤسسات الدولة السورية، وهي خطوة أنهت فعليًا معادلة الانقسام بين الشمال والشرق السوريين، وسمحت لتركيا بالمشاركة في ترتيبات أمنية تضمن لها الحد من قيام كيان كردي مستقل.
في الميدان، حافظت تركيا على وجودها من خلال 126 موقعًا عسكريًا شمال سوريا، لكنها خفّضت اعتمادها على القوة الصلبة لصالح أدوات"النفوذ اللوجستي".فهي تتحكم اليوم في 3 معابر رئيسية(باب الهوى، جرابلس، وباب السلامة)، وتدير شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات في شمال حلب وإدلب عبر شركات تركية.
أكثر من 25 مجلسًا محليًا وبلدية شمال سوريا تعمل تحت إشراف مباشر من الولايات الحدودية(غازي عنتاب، كيليس، هاتاي).الليرة التركية أصبحت العملة الرسمية المتداولة في الأسواق منذ 2020، ما عزز الارتباط الاقتصادي البنيوي بين الشمال السوري والجنوب التركي.
ملف اللاجئين تحوّل إلى ورقة سياسية واقتصادية بامتياز.فقد أطلقت تركيا خطة“العودة الطوعية”لبناء 250 ألف وحدة سكنية لاستيعاب ما يقارب مليون لاجئ، بتمويل قطري ودعم أوروبي مشروط.
الهدف مزدوج:تخفيف ضغط اللاجئين داخل تركيا، وخلق“شريط سكاني موالٍ”في الشمال السوري يشكّل حاجزًا بشريًا وأمنيًا.وبذلك، أصبحت تركيا الضامن الإقليمي لإعادة الإعمار والاستقرار، وربطت استمرار دعمها الأوروبي والخليجي بمصالحها الأمنية.
حتى منتصف 2025، قدرت الاستثمارات التركية المباشرة في شمال سوريا بأكثر من 500 مليون دولار سنويًا في قطاعات الطاقة والبنية التحتية، بينما تتفاوض أنقرة مع السعودية والإمارات على مشاريع بقيمة عدة مليارات لإعادة الإعمار مقابل إشراف تركي على التنفيذ.
دبلوماسيًا، تتحرك تركيا اليوم بين القوى الكبرى بمرونة محسوبة:
مع واشنطن:شراكة حذرة لتطويق النفوذ الإيراني دون المساس بقوات“قسد”.
مع موسكو:تفاهمات ضمنية تتيح لها البقاء طالما لا تهدد مناطق النظام.
مع طهران:تنسيق حدودي دقيق وتنافس ناعم في الملف الكردي.
في النهاية، لا يبدو أن أنقرة انسحبت من سوريا، بل أعادت هندسة وجودها:من قائدٍ في المعارك إلى مهندسٍ للترتيبات السياسية والاقتصادية.إنها مرحلة نفوذ أكثر هدوءًا وعمقًا، تُمارَس من خلف الكواليس لا من فوق الدبابات.
للاطّلاع على الفيديو وقراءة الورقة التحليلية الكاملة، يُرجى التمرير إلى الأسفل.
ملف النفوذ التركي في سوريا 2025: هل تنسحب أم تعيد التموضع؟
تركيا لم تغادر سوريا… فقط غيّرت مقعدها من ساحة المعركة إلى غرفة العمليات السياسية.

التعليقات