المقدمة:
شهد العالم في السنوات الأخيرة صعودًا غير مسبوق لتقنيات الذكاء الاصطناعي بوصفها“تقنيات خلاص”قادرة على حل معضلات معقدة بكفاءة وسرعة.تُطرَح تطبيقات الذكاء الاصطناعي كحلول للتغير المناخي وإدارة المدن الذكية ورصد التلوث وتعزيز كفاءة الطاقة، حتى أن بعض التقديرات تشير إلى إمكان تخفيض الانبعاثات العالمية بنسبة 5–10%بحلول 2030 بفضل تطبيقات الذكاء الاصطناعي(Google,2023).غير أن هذا الخطاب الاحتفالي يخفي مفارقة جوهرية:فكل خدمة رقمية“غير مادية”يقدمها الذكاء الاصطناعي تعتمد في الواقع على بنية تحتية مادية كثيفة الموارد من الطاقة والمياه والمعادن.فالسحابة الإلكترونية ليست سحابًا فعليًا في السماء بل مزارع ضخمة من الخوادم التي تستهلك كميات هائلة من الكهرباء والماء وتستلزم معادن ومواد خام لبنائها.
مؤخرًا، بدأ النقاش الدولي يشهد تحولًا مهمًا بعد صدور تقارير أممية وتغطيات صحفية متخصصة حذّرت من الكلفة البيئية الخفية لهذه التقنيات.من هنا يبرز سؤال البحث المركزي:هل يمثل الذكاء الاصطناعي أداة لتحقيق الاستدامة البيئية فعلًا، أم أنه عبء بيئي جديد يجري ترويجه بخطاب أخضر مضلل؟
تجادل هذه الورقة البحثية بأن الذكاء الاصطناعي ليس محايدًا بيئيًا، بل إن بصمته الكربونية والمادية كبيرة ومتنامية.ومع غياب الحوكمة البيئية الصارمة، فإن طفرة الذكاء الاصطناعي قد تتحول إلى إعادة إنتاج رقمية لأزمات المناخ والاستخراج التي عرفها الاقتصاد الصناعي في القرن الماضي.
المحور الأول:استهلاك الطاقة والمياه—الوجه غير المرئي للبنية التحتية الذكية
تمثل مراكز البيانات العمود الفقري الخفي الذي يقوم عليه الذكاء الاصطناعي الحديث.فهذه المستودعات الضخمة من الخوادم الحاسوبية تعمل على مدار الساعة لمعالجة خوارزميات التدريب والتشغيل(الاستدلال)الخاصة بالذكاء الاصطناعي، مما يتطلب إمدادات هائلة من الكهرباء.وقد شهد الطلب على الطاقة الكهربائية من قِبل هذه المراكز ارتفاعًا مطردًا مع توسع استخدام الذكاء الاصطناعي.في عام 2023 قُدّر استهلاك مراكز البيانات في الولايات المتحدة بحوالي 176 تيراواط ساعي من الكهرباء، أي ما يعادل استهلاك دولة مثل أيرلندا، مع توقع تضاعف هذا الرقم أو حتى بلوغه ثلاثة أضعاف بحلول 2028(Lincoln Institute of Land Policy,2023).
وعلى الصعيد العالمي، حذّرت الوكالة الدولية للطاقة من أن استهلاك مراكز البيانات قد يتضاعف بحلول 2030 ليصل إلى مستوى مماثل لاستهلاك اليابان اليوم(Climate Change News,2025).إن جزءًا من هذا الطلب مرتبط بتدريب النماذج الضخمة:فقد قُدّر أن عملية تدريب نموذج لغوي فائق مثل GPT-3 قد استهلكت نحو 1,300 ميغاواط ساعي من الكهرباء(أي ما يساوي استهلاك 130 منزلًا أمريكيًا في العام)، بينما تطلب تدريب النموذج الأحدث GPT-4 طاقة أكبر بحوالي 50 ضعفًا(Library Journal,2023).حتى الاستخدام اليومي لهذه النماذج ليس ضئيلاً؛ إذ قد يستهلك الاستعلام الذي يوجهه المستخدم إلى خدمة ذكاء اصطناعي مثل ChatGPT مقدارًا من الكهرباء يزيد عشر مرات عن عملية بحث تقليدية على الإنترنت.وليس من المستغرب في ضوء ذلك أن يتسارع انتشار مراكز البيانات عالميًا ليصل عددها إلى نحو 8 ملايين مركز في عام 2022 بعد أن كان حوالي 500 ألف فقط في 2012(United Nations Environment Programme,2023).
تعتمد معظم مراكز البيانات على شبكات كهرباء لا تزال مزيجًا من مصادر الطاقة التقليدية والمتجددة.ففي الولايات المتحدة مثلًا، تحصل هذه المراكز على حوالي 50%من طاقتها من محطات كهرباء وقودية(غاز طبيعي وفحم)(Lincoln Institute of Land Policy,2023)، وفي الصين تعتمد بشكل كبير على الفحم حاليًا.وتتوقع الوكالة الدولية للطاقة أن يتم تأمين نحو نصف الزيادة في استهلاك مراكز البيانات من مصادر متجددة بحلول 2030، لكن النصف الآخر سيأتي من محطات الغاز والفحم مما يجعل هذه المراكز محركًا لزيادة الانبعاثات حتى نهاية العقد.بالفعل، قد ترتفع انبعاثات الكربون من استهلاك الكهرباء الخاص بمراكز البيانات بنسبة تصل إلى 180%بحلول 2035 وفق بعض التقديرات(Climate Change News,2025).
ومما يعزز هذه المخاوف ما شهدناه مؤخرًا من قفزة كبيرة في انبعاثات شركات التكنولوجيا؛ فعلى سبيل المثال ارتفعت انبعاثات شركة مايكروسوفت بحوالي 30%خلال عام واحد نتيجة استثماراتها المكثفة في تطوير وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي(Jacobin,2024)، وذلك رغم تعهدها بالوصول إلى الحياد الكربوني بحلول 2030.هذا يشير إلى حدود الاعتماد على الطاقة المتجددة وحدها في تغطية الطلب الهائل، وإلى احتمال حدوث ما يُعرف بأثر الارتداد حيث تلتهم الاستخدامات الجديدة وفورات الكفاءة المتحققة.
لا يقتصر العبء على الكهرباء وحدها؛ فمراكز البيانات“العطشى”للمياه هي وجه آخر غير مرئي للبنية التحتية الرقمية.تحتاج الخوادم لتبريد مستمر حتى لا ترتفع حرارتها وتتعطل، لذا تُستخدم أنظمة تبريد مائية كثيفة.تُظهِر إحدى الدراسات أنه بحلول عام 2030 قد يصل استهلاك مراكز البيانات في ولاية تكساس الأمريكية وحدها إلى 399 مليار غالون ماء سنويًا–أي ما يكافئ استنزاف أكبر خزّان مائي في الولايات المتحدة(بحيرة ميد)بمقدار يتجاوز 16 قدمًا من منسوبه(Lincoln Institute of Land Policy,2023).وقد كشفت دعوى قضائية محلية أن مركز بيانات واحد تابع لمايكروسوفت في ولاية آيوا استهلك 6%من إجمالي مياه التبريد في منطقته خلال شهر واحد أثناء تدريب نموذج GPT-4 عام 2022(Library Journal,2023).
حتى على نطاق الاستخدام اليومي، فإن كل عملية محادثة مع نموذج ذكاء اصطناعي تستنزف مقدارًا ملحوظًا من الماء؛ إذ قدّرت دراسة في عام 2023 أن جلسة تفاعلية تتألف من 20 سؤالًا وجوابًا مع نموذج مثل ChatGPT تستهلك نحو 500 ملليلتر من الماء(بحجم زجاجة مياه)في عمليات التبريد اللازمة خلف الكواليس.وتختلف هذه الكمية باختلاف موقع مراكز البيانات وفصل السنة، لكنها كمية تتراكم عالميًا مع كل ملايين الاستفسارات اليومية.المفارقة أن نحو ثلثي مراكز البيانات الجديدة منذ عام 2022 أُقيمت في مناطق تعاني أصلًا من إجهاد مائي مرتفع أو متوسط–بما في ذلك مناطق حارة وجافة مثل أريزونا–مما يعني أن“الخدمات السحابية”تستهلك موارد مائية محلية شحيحة(Lincoln Institute of Land Policy,2023).
وإلى جانب المياه المباشرة المستخدمة في التبريد، هناك استهلاك غير مباشر هائل يتمثل في المياه التي تستخدمها محطات توليد الكهرباء التقليدية(لتبريد توربينات البخار)وكذلك المياه اللازمة لتصنيع رقاقات الحاسوب.فإنتاج كل شريحة سيليكونية يتطلب معالجة بمياه فائقة النقاء لإزالة الشوائب، ويستهلك مصنع الشرائح النموذجي حوالي 10 ملايين غالون من المياه يوميًا لتحقيق ذلك–أي ما يعادل استهلاك 33 ألف أسرة من المياه في اليوم الواحد (Lincoln Institute of Land Policy,2023).
رغم هذه الأرقام المقلقة، يواجه الباحثون وصناع السياسات صعوبة في الحصول على بيانات شفافة حول الاستهلاك الفعلي للطاقة والمياه المرتبط بالذكاء الاصطناعي.تتحفظ شركات التكنولوجيا على إفصاح التفاصيل بدقة، ربما بدافع المنافسة التجارية أو خوفًا من ردود فعل سلبية.وقد لاحظ الخبراء أن“التكاليف البيئية الحقيقية للذكاء الاصطناعي تظل أسرارًا تجارية تخضع لحراسة مشددة”، إذ لا تنشر الشركات سوى معلومات مجملة أحيانًا ضمن تقارير الاستدامة السنوية دون تفصيل تأثير مشاريع الذكاء الاصطناعي وحدها.يستخدم بعض عمالقة التقنية هذه التقارير كأداة علاقات عامة، حيث يسلطون الضوء على مبادرات الطاقة المتجددة وتعويض الكربون، بينما يُغيّبون الأرقام الكاملة للاستهلاك المائي والكهربائي لمراكزهم.هذا النقص في الشفافية يجعل من الصعب على الجمهور وصناع القرار محاسبة هذه الشركات أو تقييم مدى“خضرة”خدماتها بصورة موضوعية.
تطرح هذه المعطيات تساؤلات جادة:هل يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي تقنية خضراء حقًا إذا كانت بنيته التحتية ترتكز على شبكة عالية الاستهلاك للطاقة والمياه وتصدر انبعاثات كبيرة؟ وإلى أي حد يتم نقل الكلفة البيئية من كاهل المستخدم النهائي الذي يستفيد من خدمات“سحابية”سهلة إلى كاهل المجتمعات المحلية التي تحتضن مزارع الخوادم وتتكبد ضغوط الموارد والتلوث؟ إن الإجابة الصادقة تقتضي رؤية الصورة الكاملة لهذه البنية التحتية“الذكية”وما تنطوي عليه من أعباء بيئية مخفية وراء وعود الكفاءة والسرعة.
المحور الثاني:المعادن النادرة وسلاسل التوريد—الذكاء الاصطناعي كاقتصاد استخراج جديد
وراء عالم الذكاء الاصطناعي الافتراضي يكمن أساس مادي من المعدّات الإلكترونية التي تتطلب مجموعة واسعة من المعادن والمواد الخام.تعتمد الرقاقات الحاسوبية المتقدمة والخوادم الضخمة على معادن أساسية مثل السيليكون والنحاس والذهب، فضلًا عن عناصر أرضية نادرة مثل النيوديوم والديسبروسيوم في المغناطيسات والغالّيوم والجرمانيوم في أشباه الموصلات.كما تحتاج بطاريات إمداد الطاقة غير المنقطعة لمراكز البيانات إلى معادن الليثيوم والكوبالت والنيكل.وتشير التقديرات إلى أن تصنيع حاسوب حديث يزن 2 كيلوجرام يتطلب حوالي 800 كيلوجرام من المواد الخام من المعادن المختلفة(United Nations Environment Programme,2023)، مما يبرز الثقل المادي الهائل الكامن خلف الخدمات الرقمية اللامادية.
استخراج هذه المعادن الحيوية يأتي بكلفة بيئية جسيمة.فعمليات التعدين والتنقيب غالبًا ما تؤدي إلى تدمير النظم البيئية الطبيعية وإزالة مساحات شاسعة من الأراضي، بالإضافة إلى تلويث المياه والتربة نتيجة تصريف المخلفات السامة.على سبيل المثال، أدت حمى تعدين العناصر الأرضية النادرة في الصين–التي توفر الجزء الأكبر من هذه العناصر عالميًا–إلى ترك إرث سام من النفايات المشعة والتلوث الكيميائي في مناطق التعدين الرئيسية بإقليمي منغوليا الداخلية وجيانغشي(Environmental Health News,2023).
وبالمثل، فإن استخراج الليثيوم–الضروري للبطاريات–في مناطق صحارى الملح بأمريكا الجنوبية يتطلب ضخ كميات مهولة من المياه المالحة ثم تبخيرها، بحيث يُستهلك ما يقارب 2 مليون لتر من المياه لإنتاج طن واحد من الليثيوم عبر التبخير الشمسي التقليدي(247Storage Energy,2023).هذه العملية تستنزف المياه الجوفية الشحيحة في مناطق صحراوية وتعطل الأنظمة البيئية المحلية.أما تعدين الكوبالت في جمهورية الكونغو الديمقراطية,والذي يعد المصدر الرئيسي لإنتاج الكوبالت عالميًا,فيرتبط بمشكلات بيئية واجتماعية خطيرة تشمل تلوّث الأنهار بالمعادن الثقيلة وانكشاف العاملين لمواد سامة دون حماية كافية.يُضاف إلى ذلك الأثر الكربوني الكبير لسلاسل توريد هذه المعادن، حيث يتطلب نقلها ومعالجتها طاقة كبيرة تؤدي لانبعاثات إضافية من غازات الدفيئة.
يكتسب بُعد الجغرافيا أهمية خاصة في فهم اقتصاد المعادن للذكاء الاصطناعي.إذ تتركز مناطق التعدين والاستخراج في دول ومناطق الجنوب العالمي، بينما يتركز استهلاك هذه الموارد في الدول الصناعية الغنية وشركات التكنولوجيا الكبرى.على سبيل المثال، تقع معظم الثروة العالمية من العناصر الأرضية النادرة في الصين التي تستحوذ على نحو 69%من إنتاج خامات هذه العناصر وأكثر من 85%من طاقة تكريرها عالميًا(Econofact,2023)، مما يجعلها المورّد الرئيسي للمعادن النادرة التي تدخل في مكونات الخوادم والشرائح.وبالمثل، تحتوي دول ما يعرف بـمثلث الليثيوم(بوليفيا والأرجنتين وتشيلي)على ما يفوق نصف احتياطيات الليثيوم العالمية(World Economic Forum,2023)، وتنتج جمهورية الكونغو الديمقراطية قرابة 70%من إجمالي الكوبالت المستخرج عالميًا(Discovery Alert,2025)كما سبقت الإشارة.
هذا التركّز الجغرافي يعني أن مجتمعات الجنوب تتحمل وطأة التلوث وتبعات الاستخراج–من تلوث مياه الأنهار في الكونغو إلى استنزاف المياه الجوفية في صحارى تشيلي–بينما تستفيد شركات التقنية في الشمال الرقمي من المواد الخام الرخيصة في صناعة معالجاتها وبُناها التحتية المتقدمة.وغالبًا ما تتم عمليات التعدين في بيئات ذات نظم تشريعية أقل صرامة، ما يسمح للشركات المستخرجة بتجاهل الكثير من المعايير البيئية أو الاجتماعية.وقد أبلغت تقارير حقوقية عن ظروف عمل قاسية في مناجم الكوبالت بأفريقيا تشمل عمالة أطفال وحوادث قاتلة، كما تشهد مناطق التعدين نزاعات بين الشركات والسكان المحليين المطالبين بحماية أراضيهم ومواردهم.
يثير هذا الواقع أسئلة جوهرية حول النموذج الاقتصادي الذي يصاحب صعود الذكاء الاصطناعي.فهل نحن أمام اقتصاد استخراجي رقمي يعيد إحياء أنماط الاستغلال القديمة بثوب تقني جديد؟ إن الخطاب السائد حول الاقتصاد المعرفي وأثره الإيجابي يُخفي خلفه استمرار الاعتماد على موارد مادية محدودة يتم استخراجها بطرق تفتقر للاستدامة.وفي غياب شفافية تتبع سلسلة التوريد، يظل المستهلك النهائي غير واعٍ بأن هاتفه الذكي أو خدمته السحابية ترتبط بانبعاثات وتلوث وأعباء بيئية بعيدة عن ناظريه.عليه، قد يتحول الذكاء الاصطناعي إلى واجهة رقمية جديدة لنموذج اقتصادي قديم قائم على الاستخراج المكثف للموارد، مما يستدعي إعادة تقييم شاملة لكلفة التقنية الخفية وضمان عدم تغليفها بخطاب الابتكار الأخضر.
المحور الثالث:الحوكمة البيئية للذكاء الاصطناعي—بين التنظيم المتأخر والمسؤولية الغائبة
على الرغم من التوسع السريع للذكاء الاصطناعي وكلفته البيئية المتصاعدة، لا يزال البعد البيئي غائبًا إلى حد كبير عن الأطر التنظيمية والمعايير القانونية التي تحكم هذه التقنيات.تركز أغلب السياسات والتشريعات الراهنة للذكاء الاصطناعي على قضايا الخصوصية والأمان وأخلاقيات الخوارزميات وتأثيرها على سوق العمل، في حين لم يتم إيلاء سوى اهتمام محدود لمسألة الانبعاثات الكربونية أو استهلاك الموارد.ومع أن أكثر من 190 دولة أقرت توصيات أخلاقية غير ملزمة بشأن الذكاء الاصطناعي ضمن إطار اليونسكو تتضمن دعوات لاعتبار الاستدامة البيئية(United Nations Environment Programme,2023)، إلا أن هذه التوصيات بقيت طوعية ولم تُترجم بعد إلى قوانين وطنية فعالة.
على الصعيد الدولي، شهدنا خطوة رمزية هذا العام تمثّلت في اعتماد جمعية الأمم المتحدة للبيئة لأول قرار على الإطلاق يتعلق بأثر الذكاء الاصطناعي على البيئة.يهدف القرار إلى تعظيم فوائد الذكاء الاصطناعي لدعم البيئة وتقليل مخاطره وكلف برنامج الأمم المتحدة للبيئة بإعداد تقرير حول المنافع والمخاطر البيئية للذكاء الاصطناعي.لكنه جاء مخففًا بعد خلافات بين الدول؛ إذ حُذفت منه الإشارة إلى ضرورة تتبع دورة حياة أنظمة الذكاء الاصطناعي كاملة–أي مراقبة استهلاكها من الماء والطاقة والمعادن عبر سلسلة الإمداد–بسبب اعتراض بعض الدول المنتجة للنفط والمعادن.ورغم ترحيب الخبراء بهذا القرار بوصفه خطوة أولى، فقد نبهوا إلى نقاط عمياء لا بد من معالجتها في جولات تفاوض قادمة لتحقيق مساءلة شاملة عبر دورة حياة التقنية.فبدون إدماج معايير الاستدامة في كافة مراحل دورة حياة الذكاء الاصطناعي، نخاطر بتكرار أنماط عدم العدالة البيئية التي رافقت الثورات التقنية السابقة(Climate Change News,2025).
يبقى السؤال حول الجهة التي تقع عليها مسؤولية الحد من البصمة البيئية للذكاء الاصطناعي.حتى الآن، تعتمد الحكومات بشكل كبير على مبادرات الشركات الطوعية؛ فشركات التكنولوجيا تصدر تقارير استدامة وتعلن أهدافًا بالوصول إلى صفر انبعاثات كربونية وصفر نفايات بحلول 2030–لكن من دون رقابة مستقلة صارمة يصبح التحقق من هذه الادعاءات صعبًا.من جهة أخرى، تتردد بعض الحكومات في فرض قيود بيئية صارمة خوفًا من إعاقة الابتكار أو دفع الشركات لنقل استثماراتها إلى ولايات أخرى أكثر تساهلًا.و
هكذا يجد صناع السياسات أنفسهم في موازنة صعبة بين جذب استثمارات قطاع التقنية المتقدم وحماية البيئة والموارد.أما المستهلكون، فيظل وعيهم بتأثير استخدامهم اليومي للتطبيقات والخدمات المدعومة بالذكاء الاصطناعي محدودًا–فلا أحد يشعر مباشرة بانبعاثات الكربون الناتجة عن سؤال بسيط يطرحه على مساعد افتراضي.
إن الفجوة الحالية في حوكمة الأثر البيئي للذكاء الاصطناعي تدعو إلى ابتكار أدوات تنظيمية جديدة.قد يكون من الضروري تطوير مفهوم الذكاء الاصطناعي المسؤول بيئيًا عبر وضع مؤشرات ومعايير قياس لبصمة الطاقة والمياه لكل نموذج وخدمة، وفرض شفافية إلزامية على الشركات للإفصاح عن تلك البيانات.يقترح بعض الخبراء أيضًا استحداث أدوات مثل ضريبة الكربون الرقمية أو وضع سقوف لاستهلاك الموارد في مراكز البيانات الكبرى(Frontiers in Sustainability,2024).كما يمكن إدماج متطلبات الكفاءة الطاقية وإعادة التدوير في تراخيص تشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي.الهدف من كل ذلك هو ضمان أن الثورة التقنية المقبلة لا تتحقق على حساب البيئة.فإذا كانت الصناعات الثقيلة تخضع منذ عقود لمعايير صارمة للحد من التلوث وحماية الهواء والمياه، فإن الوقت قد حان ليخضع الاقتصاد الرقمي لمبادئ مماثلة من الاستدامة والمحاسبة البيئية.
الخاتمة:نحو ذكاء اصطناعي يحسب كلفته
توضح المحاور السابقة أن الذكاء الاصطناعي ليس تقنية نظيفة معصومة من الأثر البيئي كما قد يصوره بعض الخطاب التفاؤلي.فقد رأينا أن تشغيل هذه التقنية يعتمد على بنية تحتية تستهلك مقادير هائلة من الكهرباء والمياه وتخلف انبعاثات وملوثات، كما يستند إلى موارد معدنية تُستخرج من باطن الأرض بكلفة بيئية واجتماعية عالية.وفي الوقت الذي يتسارع فيه تبني الذكاء الاصطناعي عالميًا، لا يزال التنظيم البيئي متأخرًا عن مواكبة هذا التسارع، مما يترك المجال مفتوحًا لإعادة إنتاج مشكلات التغير المناخي ونموذج الاستخراج المفرط ولكن بصيغة رقمية حديثة.
إذا استمررنا في الاحتفاء بالذكاء الاصطناعي بوصفه حلًا سحريًا دون إخضاعه للمحاسبة البيئية، فإننا نخاطر بخلق أزمة مستترة تنتقل فيها التكلفة البيئية من المصانع والمناجم إلى مراكز البيانات والخوارزميات.والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه في النهاية:هل نحن أمام ثورة تقنية خضراء فعلًا، أم أننا نشهد مجرد نقلٍ خفيّ للكلفة البيئية من المصنع إلى الخوارزمية؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تستدعي إعادة التفكير جذريًا في نهج تطوير الذكاء الاصطناعي.ليس الهدف الدعوة إلى إبطاء تقدم هذه التقنية الرائدة، بل التأكيد على ضرورة إخضاعها لمبادئ الاستدامة والعدالة البيئية.ويتطلب ذلك تبني صانعي القرار والشركات نهجًا استباقيًا–عبر التعاون الدولي والحوكمة الرشيدة–لوضع معايير ملزمة تكفل أن تكون التقنيات الذكية في خدمة الاستدامة فعلًا، لا عبئًا جديدًا عليها.

التعليقات