العيش على وضعية التوقع: لماذا نعيش كأننا "ننتظر" شيئا دائما؟

العيش على وضعية التوقّع يحوّل الحاضر إلى محطة انتظار مؤقتة، ويجعل السعادة مؤجلة دائمًا لما لم يأتِ بعد.

العيش على وضعية التوقع:  لماذا نعيش كأننا "ننتظر" شيئا دائما؟

اولا:المقدمة
نستيقظ غالبا على يوم يبدأ قبل ان يبدأ فعلا:شاشة تقفز فيها اشعارات، محادثة نراجعها بحثا عن رد، وبريد نحدّثه كمن يفتش عن اشارة.لا يكون الانتظار هنا حدثا عابرا بل نمطا:رسالة، نتيجة، وظيفة، او مناسبة نعلّق عليها شعورا بالاستقرار.المفارقة ان جدولنا ممتلئ، لكن احساسا خفيا يهمس ان ما نعيشه الان مجرد ممر.هذا الاحساس يتغذى من بيئة اتصال لا تترك للحاضر فرصة الاكتمال؛ فبحسب Digital 2025 يبلغ متوسط الوقت اليومي على الانترنت 6 ساعات و38 دقيقة، بينما يقضي المستخدم النموذجي على منصات التواصل ساعتين و21 دقيقة، وهو رقم يقل بنحو 10 دقائق عما كان عليه قبل عامين.وعالميا يصل استهلاك المحتوى على المنصات الاجتماعية الى نحو 15 مليار ساعة يوميا، بما يعادل اكثر من يوم يقظة كامل كل اسبوع للمستخدم النموذجي.في مناخ كهذا، يصبح التحديث هو الهواء الذي نتنفسه، ويصبح“بعد قليل”هو لغة اليوم(DataReportal,2025).

من هنا يبرز السؤال المركزي:لماذا نعيش وكأن الحياة الحقيقية ستبدأ لاحقا؟ وكيف تحول المستقبل الى شرط للسعادة لا مجرد اتجاه للتخطيط؟ تقترح هذه الورقة ان المشكلة ليست في الامل ولا في تنظيم الوقت، بل في تطييف الزمن:تحويله الى لحظات معلّقة على حدث قادم، وفي اقتصاد وثقافة يربحان من بقاء الانسان على وضعية التوقع.سنفكك اولا كيف تحول الزمن الى زمن مشروط، ثم كيف تصنع الاشعارات ومؤشرات القراءة اقتصاد ترقب، ثم نحلل الكلفة النفسية والاجتماعية لهذا النمط بالاستناد الى بيانات منظمة الصحة العالمية التي تقدر ان 4.4%من سكان العالم يعيشون اضطراب قلق وان 359 مليون شخص عانوا القلق في 2021(WHO,2025a)، قبل ان نقترح تفكيكا عمليا لكسر دائرة الانتظار.

ثانيا:المحور الاول—كيف صارت الحياة حالة انتظار دائم؟
يبدأ تحول الانتظار الى حالة دائمة من تحول الزمن نفسه:من زمن مفتوح نعيش داخله، الى زمن مشروط نعلّق معناه على“نقطة وصول”.في الزمن المفتوح كان المسار يحمل قيمة بذاته، اما الزمن المشروط فيقيس الحاضر بقدرته على تقريبنا من حدث قادم:“بعد النتيجة”،“بعد القبول”،“بعد الرد”.هذا التحول لم يأت من فكرة فلسفية مجردة، بل من اعادة تشكيل يومنا على مقاييس شديدة الدقة:دقائق، تحديثات، مؤشرات، ومواعيد صغيرة تفرض نفسها.حين يصبح متوسط الحضور على الانترنت 6 ساعات و38 دقيقة يوميا، فان اليوم يتفتت الى مساحات اتصال متكررة تضع الحاضر تحت مراقبة دائمة(DataReportal,2025a).والانسان الذي يقضي ساعتين و21 دقيقة يوميا على منصات التواصل لا يضيف نشاطا جديدا فقط، بل يضيف نمطا زمنيا جديدا يقوم على ترقب اشارة من الخارج، خصوصا عندما نعرف ان هذا المتوسط، رغم تراجعه بنحو 10 دقائق مقارنة بما كان عليه قبل عامين، ما زال يعادل اكثر من 14 ساعة اسبوعيا للفرد الواحد(DataReportal,2025b).بهذا المعنى لا يعود المستقبل افقا، بل يصبح“موعدا”يطلب منا ان نبقى جاهزين، وان نُقيّم الان بوصفه مرحلة ناقصة، وان نؤجل حق الارتياح الى لحظة وصول قد تتبدل حالما نصل اليها.الزمن المشروط لا يقول صراحة ان الحاضر بلا قيمة، لكنه يجعل قيمته مستعارة من الغد؛ لذلك يتسع الفراغ الداخلي حتى داخل الايام المزدحمة، لان معيار الرضا ليس ما نفعله، بل ما لم يحدث بعد.

اذا كان الزمن المشروط هو البنية، فان اقتصاد الترقب في العصر الرقمي هو محركها اليومي.المنصات لا تكتفي بان تقدم محتوى، بل تقدم وعدا صغيرا متكررا:ربما هناك جديد، ربما هناك رد، ربما هناك اشارة.الاشعار لا يعمل كخبر فحسب، بل كتعليق للحاضر، لانه يفتح احتمالين في آن واحد:مكافاة او خيبة، وكلاهما يفرض متابعة لاحقة.لهذا نرى ظاهرة ارهاق التنبيهات تتسع حتى في مجال الاخبار، وهو المجال الذي يفترض انه“يحتاج”الى العاجل:في تحليل رويترز انستيتيوت ضمن تقريره لعام 2025 قال 79%من المشاركين عبر 28 دولة انهم لا يتلقون اي تنبيهات اخبارية في اسبوع عادي، بينما اقر 43%من هؤلاء بانهم قاموا فعلا بتعطيلها بسبب الحمل الزائد او عدم الفائدة او الارهاق العاطفي(Newman,2025).قد يبدو ذلك دليلا على تراجع قوة الاشعارات، لكنه في الواقع يكشف عن مفارقة:الناس يهربون من الاشعار لانهم خبروا قدرته على شد الوعي الى وضعية التوقع، وليس لانهم تحرروا من منطق الترقب.فحتى من يعطل تنبيهات الاخبار غالبا يبقي على تنبيهات الرسائل والتطبيقات الاجتماعية، حيث تكون المكافاة اكثر شخصية، والانتظار اكثر التصاقا بالهوية.ويصبح الترقب سلعة قابلة للبيع والشراء:كل دقيقة انتباه هي وحدة اقتصادية، وكل قفزة الى الشاشة هي فرصة اعلان او توصية او تتبع.

وللدلالة على حجم هذا الاقتصاد، تشير بيانات Statista التي يلخصها تقرير Digital 2026 الى ان الانفاق العالمي على اعلانات المنصات الاجتماعية في 2025 قد يبلغ نحو 277 مليار دولار، مع نمو سنوي مزدوج الرقم(DataReportal,2025d).هذا يعني ان“تعليق الانسان”ليس عرضا جانبيا، بل جزء من نموذج عمل:ان تبقى عالقا يعني ان تبقى قابلا للاستهداف، وان تبقى داخل الحلقة التي تعيد فتح السؤال نفسه:هل وصلني شيء؟ هل تغير شيء؟ هل اقتربت؟ هكذا يتحول الترقب من شعور الى سوق، ومن عادة الى بنية. 

اما ثقافة الوعد المؤجل فتعمل كطبقة تبريرية تمنح الانتظار معنى اخلاقيا:“اصبر الان لتعيش افضل لاحقا”.هنا يتقاطع خطاب النجاح مع خطاب المنصات:كلاهما يطلب منك ان تؤجل الرضا، وان تربط السعادة بحدث قادم، وان تتقبل الحاضر بوصفه ثمنا.لكن الفارق بين الامل الواقعي والوعد التسويقي ان الاول يحفز الفعل داخل الحاضر، بينما الثاني يحول الحاضر الى مجرد منصة اطلاق للغد.عندما نعلم ان العالم يستهلك 15 مليار ساعة يوميا على المنصات الاجتماعية، نفهم كيف يصبح“المستقبل الموعود”مادة قابلة للتغليف والبيع:تجربة افضل، جسد افضل، فرصة افضل، وحياة مصفاة بالصورة(DataReportal,2025c).هذه الصناعة لا تحتاج ان تقنعك بان حياتك سيئة، يكفي ان تقنعك بان حياتك لم تكتمل بعد، وان الاكتمال مرتبط بخطوة او شراء او موافقة او رسالة.في هذه الثقافة تتحول مراحل الحياة الى محطات عبور بلا قيمة، وهنا يصبح السؤال ملحا:متى توقف الحاضر عن كونه مكانا للعيش، واصبح مجرد ممر للمستقبل؟ 

يكتسب هذا التحول قوة اضافية حين ننظر الى حجم الجماعة التي تعيش داخل المنصات بوصفها فضاء للزمن الاجتماعي.في بداية 2025 قدّرت تحليلات Kepios ان هويات مستخدمي المنصات بلغت 5.24 مليارات، اي ما يعادل 63.9%من سكان العالم، بعد زيادة 4.1%خلال 12 شهرا(DataReportal,2025c).ثم تشير تحديثات DataReportal الى ان عدد هويات المستخدمين وصل الى 5.66 مليارات في مطلع اكتوبر 2025، مع 259 مليون هوية جديدة خلال عام واحد، وبمعدل نمو سنوي يقارب 4.87%، اي نحو 7.8 مستخدمين جدد كل ثانية(DataReportal,2025c).هذه الارقام لا تعني فقط اتساع السوق، بل تعني ان الترقب صار لغة مشتركة:ما ننتظره لا يحدث لنا وحدنا، بل يحدث داخل ممرات رقمية مزدحمة تتقاطع فيها التوقعات، فتزيد قيمة الاشارة الصغيرة(رد، اعجاب، مشاهدة)وتصبح السعادة اكثر هشاشة حين ترتبط بمؤشرات خارجية قابلة للتقلب. 

ثالثا:المحور الثاني—تعليق السعادة:الاثار النفسية والاجتماعية للانتظار
حين تتحول الحياة الى سلسلة انتظار، تصبح السعادة نفسها قابلة للتأجيل:لا نفرح بما هو متاح الان، بل بما نتوقع ان يتحقق.هذه السعادة المؤجلة تشبه عقدا نفسيا يربط الهدوء بشرط خارجي:رسالة قبول، رقم في كشف درجات، او خبر عمل.المشكلة ان الشرط لا يثبت؛ فما ان يتحقق حتى يولد شرط اخر، لان بيئة الترقب تعلمنا ان الاكتمال مؤقت.هنا يتسلل القلق بوصفه الخلفية الدائمة للحياة المعلقة.احدث ورقة حقائق لمنظمة الصحة العالمية تقدر ان 4.4%من سكان العالم يعيشون اضطراب قلق، وان 359 مليون شخص كانوا يعانون القلق في 2021، ما يجعل اضطرابات القلق الاكثر شيوعا بين الاضطرابات النفسية(WHO,2025a).هذه الارقام لا تفسر القلق كله بالترقب الرقمي، لكنها تساعد على قراءة المناخ:عندما يكون القلق واسع الانتشار بهذا الحجم، تصبح ثقافة الانتظار قادرة على تضخيمه، لانها تضيف الى القلق مادة يومية ملموسة:احتمال مفتوح لا يغلق.

اللافت ان القلق في وضعية التوقع لا يظهر دائما كاعراض صاخبة، بل كثيرا ما يتخذ شكل توتر منخفض الدرجة:انقباض بسيط، تشتت، وشعور بان شيئا ما يجب ان يحدث كي نستقر.جزء من ذلك يعود الى ان الانتظار يسرق من الانسان حق الاكتمال؛ فحتى حين يصل الرد او تتحقق النتيجة، لا يشعر كثيرون بالراحة الا لوقت قصير، ثم يعودون الى دورة جديدة.ظاهرة ارهاق التنبيهات تقدم مثالا قياسيا على هذا المنطق:حين يقول 79%انهم لا يتلقون تنبيهات اخبارية في اسبوع عادي، ويعترف 43%بانهم عطلوها بسبب الحمل الزائد او الارهاق العاطفي، فهذا يعني ان الاجهزة العصبية نفسها تبدأ بالمقاومة(Newman,2025).لكن هذه المقاومة قد تكون جزئية:نغلق بابا ونترك ابوابا اخرى مفتوحة، فتستمر حالة الاستعداد الدائم.لذلك يصبح“الهدوء”نادرا، ليس لان الاحداث كثيرة فقط، بل لان علاقتنا بالزمن صارت علاقة مراقبة مستمرة لما سيأتي. 

اما شلل القرار وفقدان المبادرة فهما الوجه السلوكي لتعليق السعادة.في وضعية التوقع، يتردد الانسان في اتخاذ قرارات صغيرة، بحجة ان الصورة لم تكتمل بعد:“دعني انتظر الرد”،“دعني ارى النتيجة”،“ربما تتغير الخطة”.هذا التردد يبدو حكيما ظاهريا، لكنه يتحول الى نمط يعطل الفعل داخل الحاضر.ومع كل ساعة يقضيها الفرد متصلا، تتكاثر اللحظات التي يمكن ان تقاطع القرار او تؤجله؛ فاذا كان متوسط الاتصال اليومي 6 ساعات و38 دقيقة، فان فرص المقاطعة تصبح اعلى بكثير من زمن كانت فيه الاشارة اقل تكرارا(DataReportal,2025a).يضاف الى ذلك ان اقتصاد الانتباه يكافئ الاستجابة السريعة لا التفكير البطيء؛ فيدفعنا الى تفضيل ردود فعل قصيرة على قرارات طويلة المدى.ومع الوقت يصبح التروي الحقيقي نادرا:لا لاننا مستعجلون دائما، بل لاننا منتظرون دائما. 

تنعكس هذه البنية ايضا على العلاقات والحضور الانساني.حين يعيش شخصان في غرفة واحدة، لكن كلا منهما يعيش ذهنيا في احتمال مختلف، يضعف الحضور ويكثر سوء الفهم.جزء من هذا مرتبط بالطاقة العاطفية التي يستهلكها الترقب:انتظار رد قد يعني تذبذب المزاج، وتأخر بسيط قد يفسر كرفض، وخيار لم يحسم بعد قد يتحول الى جدل دائم.وفي الخلفية، اشارت منظمة الصحة العالمية في 2025 الى ان اكثر من مليار شخص يعيشون مع اضطرابات نفسية، محذرة من كلفة بشرية واقتصادية اذا لم تُدعَم الخدمات(WHO,2025b).هذه الصورة الكلية تساعد على فهم كيف يمكن لثقافة الانتظار ان ترفع حرارة العلاقات:عندما يكون العبء النفسي واسع الانتشار، يصبح الاحتكاك اليومي اكثر حساسية، وتصبح العلاقات اقل قدرة على امتصاص الغموض. 

وتظهر كلفة الانتظار ايضا في علاقتنا بالمعلومة العامة، حيث يتحول التعرض الاخباري نفسه الى مصدر ترقب واثقال نفسي.يقدم Digital News Report 2025 مؤشرا لافتا:المتوسط العالمي لمن يقولون انهم“احيانا او غالبا”يتجنبون الاخبار بلغ 40%، مع مستويات مرتفعة في بلغاريا(63%)وتركيا(61%)وكرواتيا(61%)واليونان(60%)، بينما ينخفض في تايوان(21%)واليابان(11%)(Newman,2025).هذا التجنب لا يعني فقدان الاهتمام فقط، بل يعني ان الخبر نفسه صار ينظر اليه كشيء يزيد التوتر ويعمق الاحساس بالعجز، وهو ما ينسجم مع فكرة السعادة المؤجلة:حين يزدحم المستقبل بالمخاطر، يصبح الحاضر مكانا لا يهدأ، فتبحث الذات عن مخارج.لكن هذه المخارج قد تعيد انتاج المشكلة بطريق اخر:من يتجنب الاخبار كي لا يترقب الاسوأ قد يعود الى منصات اخرى حيث يترقب الافضل شخصيا، فيستمر منطق التعليق ويتبدل فقط موضوع الانتظار.

رابعا:المحور الثالث—كسر دائرة الانتظار:من الوعي الى استعادة الزمن
الخطوة الاولى لكسر دائرة الانتظار ليست خطابا تحفيزيا ولا انكار المستقبل، بل التمييز بين التخطيط وتعليق الحياة.التخطيط اداة تنظيم تسمح للحاضر ان يعمل بكفاءة، بينما تعليق الحياة يحول التخطيط الى ذريعة لتجميد الفعل حتى تصل اشارة خارجية.في عالم يقضي فيه الانسان في المتوسط 6 ساعات و38 دقيقة يوميا على الانترنت، يصبح الخلط بينهما سهلا:نفتح الهاتف بحجة متابعة امر ضروري، فنقع في سلسلة ترقب تتوسع تلقائيا(DataReportal,2025a).لذلك يمكن فهم التخطيط كتصميم حدود زمنية لا كتعهد بالانتظار:بدلا من فحص الرسائل عشرات المرات، نحدد نافذتين او ثلاث نوافذ ثابتة يوميا للفحص، ونسمح لبقية اليوم بان يكون مسارا لا شاشة انتظار.وهذا ليس خيالا؛ فحين يعترف 43%انهم عطّلوا تنبيهات الاخبار عمدا، فهذا دليل على ان وضع الحدود خيار واقعي يلجأ اليه كثيرون لحماية انتباههم(Newman,2025). 

الخطوة الثانية هي اعادة تعريف المستقبل:المستقبل اتجاه لا شرط.حين نربط السعادة بحدث قادم، نمنح الغد سلطة على شعور اليوم، ونسمح لاي تاخر او غموض ان يتحكم في مزاجنا.لكن اذا كان المستخدم النموذجي يقضي ساعتين و21 دقيقة يوميا على المنصات، اي ما يعادل اكثر من يوم يقظة كامل كل اسبوع، فان جزءا كبيرا من“مستقبلنا”يُصنع فعليا في حاضر رقمي يلتهم الانتباه(DataReportal,2025).اعادة التعريف هنا تعني ربط المعنى بما نفعله الان لا بما ننتظره:نعتبر الدراسة قيمة بذاتها لا مجرد جسر، والعمل اليومي ممارسة حياة لا مجرد مرحلة، والعلاقات مسارا يُعاش لا مشروعا ينتظر استكماله.ووسط عالم يضم 5.66 مليارات هوية مستخدم على المنصات في اكتوبر 2025، فان استعادة الحاضر تصبح ايضا موقفا ثقافيا:رفض تحويل الحياة الى منافسة على اشارات خارجية، والاقرار بان قيمة الذات لا ينبغي ان تُقاس بمؤشرات قابلة للتقلب. 

الخطوة الثالثة هي الانتقال من الوعي الى قياس ذاتي بسيط يكشف هل انت عالق في الانتظار دون ان تشعر.يمكن تطبيق تمرين تشخيصي سريع داخل يوم واحد، لا يحتاج اكثر من دقائق، لكنه يحتاج صدقا:اسال نفسك ثلاث اسئلة محددة بصيغة شخصية، هل اربط مزاجي اليومي بخبر لم يحدث بعد؟ هل اكرر كثيرا عبارة“بس تخلص هالمرحلة”كشرط للراحة؟ وهل اشعر ان حياتي الحقيقية ستبدأ لاحقا؟ اذا كانت اجابتك“نعم”مرة واحدة، فهذا اقرب الى انتظار طبيعي مرتبط بظرف محدد، اما اذا كانت“نعم”مرتين او اكثر، فهذه اشارة الى حالة تعليق حياة تحتاج اعادة ترتيب للعلاقة مع الزمن.لتثبيت النتيجة عمليا، راقب خلال 24 ساعة عدد المرات التي تقاطع فيها الحاضر لتفحص احتمالا:اشعار، حالة قراءة، او تحديث.ثم اسال:هل يضيف هذا الفحص معرفة حقيقية ام يضيف ترقبا فقط؟ هنا يفيد مثال التعطيل:حين يعطل 43%الاشعارات بسبب الارهاق، فهم لا يكرهون المعرفة، بل يرفضون ان تتحول الى عبء ترقب دائم(Newman,2025). 

ومع ذلك، لا يمكن اختزال كسر الانتظار في قرار فردي فقط، لان اقتصاد الترقب يبنى على حوافز مادية ضخمة.عندما يبلغ الانفاق العالمي على اعلانات المنصات الاجتماعية نحو 277 مليار دولار في 2025، يصبح مفهوما لماذا تُصمم الواجهات لتوليد العودة المتكررة لا للانجاز الهادئ(DataReportal,2025d).لذلك يصبح جزء من استعادة الزمن هو هندسة عكسية بسيطة للبيئة اليومية:تقليل الاشعارات غير الضرورية، وتخفيف مؤشرات الجاهزية التي تحوّل كل محادثة الى اختبار فوري، وتحديد مساحات خالية من الشاشة داخل البيت والعمل.حتى تجنب الاخبار الذي بلغ متوسطه 40%عالميا في 2025 يمكن قراءته هنا كاشارة على بحث جماعي عن حدود، لا كمجرد لا مبالاة(Newman,2025).والسؤال العملي الذي ينبغي ان يرافق كل تعديل هو:هل هذا الخيار يعيدني الى الحاضر ام يضعني في ممر جديد للترقب؟ والخلاصة ان استعادة الزمن لا تتطلب بطولات يومية، بل خطوات صغيرة متكررة تعيد تعريف ما يستحق الانتباه. 

خامسا:الخاتمة—الخروج من محطة الانتظار
الخروج من محطة الانتظار لا يعني ان نتخلى عن الاحلام او عن التخطيط، بل ان نعيد ترتيب العلاقة بين الحاضر والمستقبل.الانتظار بذاته جزء طبيعي من الحياة، لكن المشكلة تبدأ حين يتحول الى اسلوب حياة:حين يصبح كل يوم مرهونا باشارة خارجية، وحين تصبح السعادة مؤجلة دائما، وحين يتقلص الحاضر الى ممر لا قيمة له.ما تقترحه هذه الورقة هو استعادة الحاضر بوصفه مساحة فعل ومعنى:ان نخطط من داخل اليوم لا من خارجه، وان نعيد تعريف المستقبل كاتجاه لا كشرط، وان نختبر ذواتنا بتمرين بسيط يكشف هل نعيش داخل“بس تخلص هالمرحلة”ام داخل حياة واقعية.حتى مؤشرات تجنب الاخبار التي بلغت متوسط 40%عالميا في 2025 تذكرنا بان العقل يبحث عن حدود حين يشعر بالارهاق(Newman,2025).وفي النهاية يعود السؤال الوجودي:ماذا لو لم يكن الشيء الذي ننتظره هو ما سيغير حياتنا، بل خروجنا من الانتظار نفسه؟ عندها قد نكتشف ان المستقبل لا يحتاج ان يقودنا بالسلاسل؛ يكفي ان نراه، وان نمشي نحوه، من دون ان نتوقف عن العيش الان. 

 

الوسائط والمرفقات

الفيديوهات (1)