اخبار بلا ذاكرة: كيف يصنع التدفق المستمر وعيا بلا تاريخ

التدفق الإخباري المستمر لا يصنع وعيًا أعمق، بل يفتّت الذاكرة الجماعية ويحوّل الأحداث إلى لحظات عابرة بلا سياق أو تاريخ.

اخبار بلا ذاكرة: كيف يصنع التدفق المستمر وعيا بلا تاريخ

المقدمة
نعيش اليوم داخل غرفة اخبارية لا تغلق ابدا:اشعارات على الهاتف، شريط عاجل لا ينتهي، وتحديثات تتوالد من تحديثات، حتى تصبح متابعة الخبر عادة زمنية اكثر منها جهدا للفهم.في هذا المناخ يبدو اننا نعرف اكثر من اي وقت مضى، لكننا نفهم اقل:نلتقط عناوين كثيرة، نمر على مقاطع قصيرة، ونخرج بانطباع عام لا يتحول الى معرفة قابلة للتفسير او موقف نقدي مستقر.السؤال المركزي هنا:لماذا نعرف اكثر لكن نفهم اقل؟ الاطروحة ان المشكلة ليست في نقص المعلومات، بل في بنية التدفق التي تفكك الحدث وتسلبه سياقه، وتستبدل منطق المتابعة بمنطق التمرير.فكما نبه هربرت سايمون مبكرا، ثراء المعلومات ينتج فقرا في الانتباه ويجعل التحدي الحقيقي هو ادارة الزيادة لا مراكمة المزيد. 

وتشير بحوث معاصرة الى ان بيئات الاخبار الرقمية تقيس القيمة بالانتشار والتفاعل.ويزداد الامر تعقيدا حين تتدخل الخوارزميات في ترتيب ما نراه، فتخلق خبرة معرفية شخصية قد تتحول الى فقاعة ترشيح تقلل الاحتكاك بالاختلاف وتضعف القدرة على وضع الحدث في سياق اوسع(Pariser,2011).وفي الخلفية يعمل منطق استخراج البيانات والانتباه بوصفهما موردا اقتصاديا، حيث تصبح الذاكرة نفسها مادة خام لمنصات تربح من استمرار التدفق(Zuboff,2019)، ويمكن ايضا قراءة ذلك ضمن ما يسميه بعض الباحثين استعمارا بياناتيا يعيد امتلاك الحياة اليومية عبر القياس الدائم. 

المحور الاول:من الخبر كحدث الى الخبر كتدفق
كان الخبر في الصحافة التقليدية يبنى بوصفه حدثا داخل سلسلة زمنية:جمع معلومات، تحقق، سرد، ثم متابعة تكشف التطورات والنتائج.المعنى لم يكن محصورا في لحظة النشر، بل في ما يحيط بها من خلفيات وملفات، وفي حق القارئ ان يعود الى النص نفسه بوصفه مرجعا.اما في البيئة الرقمية فقد اعيد تعريف الخبر بوصفه وحدة قابلة للتحديث السريع، وتحوّل النص الى نسخة مؤقتة قابلة للاستبدال في كل دقيقة.هذا التحول لم يات فقط من التقنية، بل من المنافسة على الانتباه:المنصات تكافئ السرعة، والناشرون يتكيفون مع ايقاع لا يسمح بالبطء.ومع توسع استهلاك الاخبار عبر شبكات اجتماعية ومحركات بحث وتطبيقات، صار الخبر يظهر في واجهات مجتزاة:عنوان، صورة، وسطرين، بينما يختفي سياق التحرير الذي كان يربط القصة بما قبلها وما بعدها.تقارير معهد رويترز توثق كيف اصبح الوصول الى الاخبار موزعا عبر منصات متعددة، وكيف يزداد اعتماد الجمهور على الواجهات الخوارزمية في اكتشاف القصص، وهو ما يعمق التحول من الخبر كحكاية الى الخبر كنبضة في تيار. 

منطق العاجل هو القاعدة التشغيلية للتدفق:كل شيء يقدم بوصفه الان، حتى لو كان جزءا من مسار طويل.المنصات تفرض الايقاع الزمني عبر الاشعارات والترند، وتعيد ترتيب الاهمية وفق معيار قابل للقياس:النقر، المشاركة، ومدة البقاء.هنا يصبح العنوان المبتور اداة اقتصاد:يوعد بكشف سريع ويؤجل التفسير، فيدفع المتلقي الى مزيد من التمرير.وبدل ان تكون السرعة وسيلة لخدمة الجمهور، تتحول الى معيار للمنافسة بين الناشرين، فتقل المسافة بين الحدث وتاويله.هذا يتقاطع مع فكرة سايمون عن ندرة الانتباه في عالم ثري بالمعلومات(Simon,1971):عندما يكون الانتباه سلعة نادرة، تسعى الانظمة الى احتجازه عبر الالحاح الزمني. 

وفي نموذج الرأسمالية الرقابية يصبح السلوك، بما فيه عادة متابعة العاجل، مادة للربح عبر التنبؤ والتوجيه، ما يجعل الاستمرار في التدفق هدفا بحد ذاته.ونتيجة ذلك يختزل الحدث الى لحظة قابلة للتداول، بينما تتراجع فرص القراءه الهادئة التي تعيد بناء المعنى.كما ان الخوارزميات لا تكتفي بتسريع النشر، بل تسرع الانتشار ايضا عبر تعزيز ما يثير الاستجابة الانفعالية، فتتسع مساحة العاجل على حساب التفسير، وتتشكل دوائر رؤية مخصصة لكل مستخدم، وهو ما يزيد احتمالات الاختزال والتشدد في القراءة.والتغطية الحية تجعل الخبر سلسلة تنبيهات لا نصا قابلا للعودة (Pariser,2011).
اثر هذا التفكك ان المعنى لم يعد ينتج من سرد متصل، بل من شظايا معلومات بلا حبكة:ارقام منفصلة، تصريحات مقتطعة، وصور تقود الى استنتاجات سريعة.التراكم المعرفي يفترض صبرا وتدرجا، اما الاستهلاك اللحظي فيعمل كذاكرة قصيرة المدى تملؤها وحدات متجاورة بلا روابط سببية.ومع تكرار القفز بين القصص يتعود العقل على الاستقبال بدل التفسير، فيضعف السؤال عن السبب والنتيجة، ويبهت التمييز بين ما هو جديد وما هو مهم. 

لهذا يصبح القارئ عرضة لوهم التحديث الدائم:يشعر انه يتقدم معرفيا بينما هو يعيد تدوير الانتباه داخل الدائرة نفسها.وعندما تتحول الحياة اليومية الى بيانات قابلة للاستخراج والقياس، تتعزز ثقافة الومضة التي تفضل الاشارة على الفهم.ويظهر ذلك في صعود ظواهر مثل تجنب الاخبار او الاكتفاء بالعناوين، حيث يشعر بعض الجمهور ان التدفق يرهقه دون ان يمنحه وضوحا، فتكون الاستجابة الطبيعية هي الانسحاب الجزئي او اللامبالاة، لا لان الحدث تافه، بل لان شكله المفكك يمنع امتلاكه ذهنيا(Newman et al.,2024).وحين لا تتشكل ذاكرة سردية، يغدو الماضي مجرد عناوين قديمة لا خبرة متعلمة.

المحور الثاني:وعي بلا سياق
حين يتفتت الخبر الى وحدات سريعة، يتفتت معه السياق الذي يمنح الحدث معناه:الاسباب التاريخية، البنى الاقتصادية، والمسارات السياسية التي تجعل من الحاضر امتدادا لا مفاجاة.التدفق لا يكره التاريخ صراحة، لكنه يضعفه عمليا عبر تحويل الخلفية الى عبء زماني لا يناسب واجهة مصممة للان.في الصيغة التقليدية كان القارئ يصل الى الخبر ومعه خريطة:ما الذي سبق؟ من الفاعلون؟ وما المسارات المحتملة؟ اما في الصيغة الرقمية فيدخل القصة من منتصفها غالبا، عبر مقطع او عنوان يعلن النتيجة قبل الاسباب.ومع تخصيص ما يظهر لكل مستخدم وفق تفضيلاته، تتسع فجوات السياق بين جماعات مختلفة ترى الحدث نفسه من نوافذ متباعدة(Pariser,2011). 

هكذا تختفي اسئلة لماذا وكيف لصالح ماذا حدث فقط، فيتحول الخبر الى معلومة معزولة، ويصبح التاريخ خلفية صامتة لا يطلبها النظام ولا يكافئ عليها.وكلما صار القياس الدائم للحياة اليومية جزءا من البنية، ازدادت قابلية السياق نفسه للضغط والاختزال، لان ما لا يقاس بسهولة يهمش(Couldry&Mejias,2019).قد يبدو ان الروابط توفر عمقا بلا حدود، لكن التجربة الفعلية عكس ذلك:غالبا ما يبقى القارئ في طبقة الواجهات، لان الانتقال بين الروابط يعني مغادرة التيار الذي يخشى فقدانه.وتشير تقارير معهد رويترز الى ان جزءا كبيرا من الاستهلاك يحدث عبر منصات وسيطة، ما يجعل الدخول الى القصص يتم من بوابات مختصرة لا من الصفحات التي تحفظ تسلسل السرد(Newman et al.,2024).
في بيئة التدفق تتشكل معرفة مجزاة:نعرف اسماء ووسوما ولقطات، لكننا لا نملك نموذجا تفسيريا يجمعها.هنا يظهر الفرق بين المعرفة والفهم؛ المعرفة قد تعني امتلاك معلومات، اما الفهم فيعني القدرة على ربطها ضمن علل وعلاقات وتوقعات معقولة.المنصات تمنح شعورا سريعا بالكفاءة المعرفية:طالما انني اتابع، فانا مطلع.لكن هذا الشعور قد يكون وهما، لان كثرة التعرض لا تعني بناء ذاكرة مفهومية، بل قد تعني فقط ادمان التحديث.من منظور اقتصاد الانتباه، المشكلة ليست ان الحقائق قليلة، بل ان الانتباه موزع على عدد كبير من الاشارات المتنافسة(Simon,1971).وعندما تصير الاهمية مرتبطة بما ينتشر لا بما يفسر، تتقدم القصص الاكثر قابلية للمشاركة على القصص الاكثر حاجة للشرح.
المحور الثالث:من الفهم الى التلقي السلبي

التدفق لا يغير فقط كمية ما نراه، بل يعيد تشكيل علاقتنا بالحقيقة ذاتها.حين يصبح معيار الظهور هو الاكثر تداولا، يتراجع معيار الاهم، ويغدو النقاش العام محكوما بمن ينجح في خطف الانتباه لا بمن يقدم تفسيرا ادق.الترتيب الخوارزمي يخلق طبقات من الواقع:كل مستخدم يرى نسخة قريبة من تفضيلاته، ما يقلل خبرة المرجع المشترك ويزيد الشك في ان هناك حقيقة واحدة يمكن الاتفاق على ملامحها(Pariser,2011).ومع تكرار الصدمات الاخبارية من دون سياق، تتاكل الثقة بالتدريج:ليس فقط الثقة بالمصادر، بل الثقة بامكانية الفهم اصلا.تقارير رويترز ترصد ان الثقة بالاخبار في كثير من الاسواق متقلبة، وان فئات من الجمهور تعبر عن الارتياب او التعب، وهو ما يجعل الحقيقة تبدو سائلة وقابلة للتبديل مع كل موجة جديدة.بهذا المعنى، لا يصبح الكذب وحده مشكلة، بل تصبح سيولة المعنى مشكلة ايضا:كثرة الاشارات من دون بوصلة تفسيرية.وفي نموذج يربح من التفاعل، تغدو الاستثارة والانقسام وقودا يعيد انتاج التدفق(Zuboff,2019).

التدفق المستمر يصنع بيئة مريحة للسلطة والمنصات معا، لا بمعنى المؤامرة، بل بمعنى البنية:حين يطغى الخبر التالي على السابق تضعف المساءلة طويلة المدى، ويصعب تثبيت سردية عن المسؤولية والنتائج.المنصات تستفيد من دوران الاهتمام لانها تقيسه وتبيعه، والسلطات تستفيد من قصر الذاكرة العامة لان ضبابية التسلسل تمنحها مساحة للانكار او لاعادة تعريف ما حدث.ضمن ما يسميه بعض الباحثين استعمارا بياناتيا، يتحول الناس الى مصادر بيانات، ويصبح ضبط ايقاع الرؤية جزءا من السيطرة الناعمة على المجال العام(Couldry&Mejias,2019).ومع الرأسمالية الرقابية يتعزز نمط توجيه السلوك عبر التنبؤ والاستجابة الفورية، ما يجعل بناء نقاش متدرج او متابعة تحققية اصعب(Zuboff,2019). 

في النهاية، الخبر لا يختفي، لكنه يفقد امتداده الزمني:لا يعود يراكم معرفة، بل يستهلك انتباها ثم يترك فراغا ينتظر موجة جديدة.وحتى حين تنشر تقارير تفسيرية، فانها تنافس ضمن الواجهة نفسها، حيث يعاد ترتيبها خلف ما هو اكثر اثارة وتداولا.ومع اعتماد الجمهور على المنصات كمدخل رئيسي للاخبار، تصبح اجندة الاهتمام قصيرة النفس، وهو ما يضعف المتابعة ويقوي منطق النسيان(Newman et al.,2024).

الخاتمة:استعادة الذاكرة والفهم
تعود هذه الورقة الى سؤالها المركزي:لماذا نعرف اكثر لكن نفهم اقل؟ الجواب الذي يتكشف عبر المحاور الثلاثة ان المسالة بنيوية لا فردية.وفرة الاخبار ليست مشكلة بذاتها، بل طريقة تدفقها:خبر يتحول الى نبض، سياق يتفتت، وذاكرة جماعية تتشكل كترندات سريعة الزوال.في هذا المناخ يصبح الارهاق المعرفي نتيجة متوقعة، وتصبح سيولة المعنى وفقدان الثقة اثارا جانبية لبنية تكافئ الانتشار على حساب التفسير.استعادة الذاكرة لا تعني الانعزال، بل بناء شروط بديلة داخل المجال العام:صحافة سياقية تعيد ربط الحدث بتاريخه، وتفسر قبل ان تسرع، ونماذج نشر تسمح بالمتابعة والارشفة القابلة للاستدعاء.وعلى مستوى التلقي، نحن بحاجة الى بطء معرفي واع يعيد توزيع الانتباه بوصفه موردا نادرا، ويقاوم منطق استخراج الانتباه والبيانات الذي يجعل التدفق هدفا اقتصاديا. 

يبقى السؤال المفتوح:هل يمكن تطوير ممارسات ومنصات تعيد الاعتبار للذاكرة والفهم، من دون ان نخسر القدرة على الاطلاع الفوري على ما يحدث في العالم؟ قد يكون جزء من المقاومة في اشكال تحريرية مثل النشرات المختارة والتغطيات البطيئة التي تقلل الضجيج وتزيد العمق، وجزء اخر في سياسات عامة تفرض شفافية على الترتيب الخوارزمي حتى لا تتحول اجندة المجتمع الى وظيفة لمعادلات مغلقة.كما ان فهم التدفق كاقتصاد بيانات يساعد على ادراك ان الذاكرة ليست مسالة شخصية فحسب، بل ساحة صراع على من يملك الحق في تعريف الماضي والحاضر.

 

الوسائط والمرفقات

الفيديوهات (1)
التحميلات
اخبار بلا ذاكرة_ كيف يصنع التدفق المستمر وعيا بلا تاريخ.pdf
132.1 KB