سنغافورة: من "جزيرة بلا موارد" إلى واحدة من أغنى اقتصادات العالم

تُظهر تجربة سنغافورة أن الثروة لا تُبنى بالموارد الطبيعية، بل بدولة ذكية تحوّل الموقع والحوكمة ورأس المال البشري إلى قوة اقتصادية عالمية.

سنغافورة: من "جزيرة بلا موارد" إلى واحدة من أغنى اقتصادات العالم

عند استقلال سنغافورة في 9 اغسطس 1965 واجهت دولة-مدينة صغيرة معضلة بقاء لا رواية نجاح جاهزة:مساحة محدودة، غياب الموارد الطبيعية، سوق داخلي ضيق، واعتماد شديد على محيط اقليمي متقلب.في مثل هذا السياق، يصبح السؤال التفسيري الاهم ليس كيف نمت سنغافورة فقط، بل كيف اعادت تعريف معنى الثروة في اقتصاد بلا مواد خام:عبر تحويل الموقع والمؤسسة والمهارة الى بدائل وظيفية عن النفط والمعادن.هذا التحول يظهر بوضوح عند مقارنة مؤشرين بسيطين:دخل الفرد(بالدولار الجاري)الذي وصل في 2024 الى نحو 90,674 دولارا وفقا للبنك الدولي، مقابل مستويات متواضعة جدا في العقود الاولى بعد الاستقلال(World Bank,2025). 

غير ان قراءة الرقم وحده قد تخدع؛ فالارتفاع لم يكن نتيجة معجزة محايدة، بل حصيلة خيارات دولة تنموية ركزت على بناء جهاز اداري منضبط، وتحييد الفساد قدر الامكان، وربط شرعية الحكم بقدرة الدولة على انتاج فرص عمل وخدمات وسكن ونظام تعليمي تنافسي.وهنا تتبلور الفكرة المركزية:سنغافورة لم تعوض نقص الموارد بوفرة رأس المال فقط، بل بتصميم مؤسساتي جعل الكفاءة الاقتصادية جزءا من البنية السياسية والاخلاقية للدولة.

احدى نقاط الانطلاق الحاسمة كانت بناء مؤسسات تصنع النمو بدل انتظار ان يحدث.انشاء مجلس التنمية الاقتصادية EDB في 1961 كمؤسسة حكومية متخصصة لاستقطاب الاستثمار وتوجيه التصنيع مثّل ترجمة مبكرة لفكرة التخطيط البراغماتي:الدولة لا تكتفي بتوفير بيئة عامة، بل تدخل كمنسق للقطاعات، يحدد اولويات الصناعة، ويوفر بنية تحتية، ويستقطب شركات متعددة الجنسيات، ويخلق حلقات توريد محلية.ومع الزمن، تطورت الاستراتيجية من تصنيع كثيف العمل الى صناعات اعلى قيمة مضافة ثم الى اقتصاد معرفة، دون ان تفقد الدولة دورها كضابط ايقاع:عبر سياسات اجور منسقة، واستثمار مستمر في الموانئ والمطارات والاتصالات، وربط صارم بين الاداء المؤسسي والمساءلة. 

قراءة البنك المركزي السنغافوري لتاريخ التحول تؤكد هذا المسار التدريجي:بحلول منتصف السبعينيات كان التصنيع قد ترسخ كقاعدة للنمو، وارتفعت مساهمة التصنيع في الناتج مقارنة بمنتصف الستينيات، بما يعكس انتقالا من وظيفة ميناء تجاري الى اقتصاد منتج.المعنى هنا ان الدولة لم تكتف بفتح الاسواق، بل هندست قدرة الاقتصاد على الاستفادة من الانفتاح.

على مستوى الجغرافيا الاقتصادية، حولت سنغافورة موقعها من قدر الى ميزة عبر تحويلها الى عقدة لوجستية ومالية عالمية.فالميناء ليس مجرد بنية نقل؛ انه منصة لادخال سنغافورة في سلاسل القيمة، ومن ثم جذب الصناعات والخدمات المرتبطة بها.في 2024 سجلت سنغافورة رقما قياسيا في مناولة الحاويات بلغ 41.12 مليون حاوية نمطية(TEUs)، مع كون نحو 90%من حركة الحاويات ذات طبيعة اعادة شحن(ترانزيت)، ما يرسخ دورها كاكبر مركز اعادة شحن للحاويات عالميا وفق التصريحات الرسمية لهيئة الموانئ البحرية(Maritime and Port Authority of Singapore,2025).هذه الارقام ليست تفصيلا تقنيا؛ انها دليل على نموذج تنموي يستورد المواد والطلب ويصدر الخدمات والقيمة، بحيث تصبح اللوجستيات والمالية والتأمين والتحكيم التجاري جزءا من ثروة الدولة، لا مجرد مرافق مساندة.

لكن النمو الاقتصادي المستدام يحتاج الى عقد اجتماعي قابل للحياة داخل المدينة، وهنا يظهر ملف السكن كسياسة اقتصادية بامتياز.توسع الاسكان العام عبر هيئة الاسكان والتنمية HDB لم يكن مجرد مشروع عمراني؛ بل كان اداة لتثبيت الاستقرار الاجتماعي، ورفع الانتاجية، وتقليل تكاليف المعيشة نسبيا، وخلق ملكية واسعة تمنح الدولة رصيدا سياسيا في مجتمع متعدد الاثنيات.احصاءات HDB الحديثة تشير الى ان غالبية السكان المقيمين يعيشون في شقق، وهو ما يفسر كيف استطاعت سنغافورة تقليل احد اهم مصادر عدم الاستقرار في المدن سريعة التمدن:العشوائيات وازمات الايجار.ومن زاوية الاقتصاد السياسي، يمكن فهم ذلك كاستثمار طويل الاجل في راس المال الاجتماعي:حين يشعر المواطن ان الدولة تدير المخاطر اليومية(السكن، الخدمات، الامن)، يصبح المجتمع اكثر استعدادا لقبول سياسات صعبة مثل الانضباط المالي، والانفتاح التجاري، وتنافسية سوق العمل.

ويكتمل هذا النموذج عبر عنصرين غالبا ما يختزلان في كلمات عامة:مكافحة الفساد والتعليم، لكنهما في التجربة السنغافورية جزء من هندسة الحوافز والفرص.في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024، حصلت سنغافورة على 84 من 100 واحتلت المرتبة الثالثة عالميا، ما يعكس صورة دولية عن نزاهة القطاع العام مقارنة بمعظم الدول(Transparency International,2025).وبالمقابل، عززت الدولة ميزة بشرية عبر نظام تعليمي يركز على المهارات والعلوم والرياضيات، وتظهر نتائجه في تقييمات دولية مثل PISA 2022 حيث يحقق طلبة سنغافورة مستويات مرتفعة جدا مقارنة بمتوسط دول OECD(OECD,2023).الدلالة التحليلية ليست التفوق المدرسي بحد ذاته، بل قدرة الدولة على تحويل التعليم الى رافعة تنافسية لاستقطاب الاستثمارات المعتمدة على المهارة، ثم تحويل جزء من عوائد النمو الى تطوير التعليم مجددا في حلقة تغذية راجعة.

مع ذلك، لا تكتمل قراءة التحول دون فهم كيفية ادارة الفوائض والمخاطر.هنا لعبت مؤسسات ادارة الاحتياطيات والاستثمارات العامة دورا في تحويل الفائض الى قوة مالية ومرونة امام الصدمات.تأسيس تماسك Temasek في 1974 كذراع استثماري للدولة يعكس منهج الملكية العامة المدارة تجاريا في قطاعات استراتيجية، مع ميل لتدويل المحافظ الاستثمارية لاحقا.وفي السياق نفسه، يؤطر GIC دوره باعتباره احد الكيانات الثلاثة لادارة احتياطيات سنغافورة، بهدف الاستثمار طويل الاجل والحفاظ على القوة الشرائية للاصول.هذه البنية لا تعني غياب الجدل؛ فهي تخلق ايضا اسئلة حول حدود الدولة كمستثمر، ومخاطر التسييس او التركز، لكن اهميتها انها وفرت للدولة اداة لتمويل التحولات الهيكلية دون الارتهان لثروات طبيعية.

الخلاصة ان قصة سنغافورة ليست انتقالا من فقر الى غنى فقط، بل انتقالا من اقتصاد يعتمد على ما يملكه من موارد الى اقتصاد يعتمد على ما يصنعه من قواعد:مؤسسات فعالة، انفتاح تجاري مضبوط، لوجستيات عالمية، سكن يخفف التوتر الاجتماعي، تعليم يرفع القيمة المضافة، وحوكمة ترفع الثقة.نجاحها قابل للتعلم جزئيا:يمكن للدول الاخرى محاكاة مبادئ مثل بناء جهاز اداري محترف، وتوجيه الاستثمار نحو قطاعات قابلة للتصدير، وربط السياسات الاجتماعية بالانتاجية.لكنه ليس قابلا للاستنساخ الكامل، لان سنغافورة استفادت ايضا من خصائص فريدة:حجم صغير يسهل الادارة، موقع بحري استثنائي، وقدرة عالية على فرض الانضباط المؤسسي.لذلك الادق هو اعتبار التجربة حزمة من السياسات والظروف:ما يمكن نقله هو منطق صنع الميزة التنافسية عبر الدولة التنموية، لا نسخة جاهزة من النتائج.وفي عالم تتزايد فيه المخاطر الجيوسياسية واضطرابات سلاسل الامداد، تبقى قيمة الدرس السنغافوري في فكرة واحدة:الدولة قد تصبح موردا اقتصاديا بحد ذاتها حين تحسن تصميم المؤسسات والحوافز.

 

الوسائط والمرفقات

الفيديوهات (1)