انفجار موجة "الكورسات السريعة": هل أصبحنا نتعلم للعرض وليس للفهم؟

نحن نعيش عصر تعلم أسرع… لكنه غالبًا أقل عمقًا، حيث تتحول الكورسات السريعة من وسيلة للمعرفة إلى وهم إنجاز لا يصنع مهارة حقيقية.

انفجار موجة "الكورسات السريعة": هل أصبحنا نتعلم للعرض وليس للفهم؟

مقدمة

في السنوات الأخيرة، شهد العالم انفجارًا غير مسبوق في انتشار"الكورسات السريعة"، تلك الدورات التي تُقدَّم في صورة مقاطع مختصرة، خطوات جاهزة، أو مساقات يمكن إنهاؤها في ساعات قليلة بدل أسابيع أو أشهر.ومع صعود منصات التعلم الرقمي ومنصات الفيديو القصير، أصبح اكتساب“مهارة جديدة”أو الحصول على“شهادة جديدة”أمرًا يتم بضغطة زر، وفي وقت يبدو أقصر من إعداد كوب قهوة.لكن وسط هذا التدفق الهائل من المحتوى، يبرز سؤال ملحّ:هل نحن نتعلم فعلًا، أم أننا نستهلك المعرفة بالطريقة نفسها التي نستهلك بها الترفيه؟

هذا التحول الجذري في نموذج التعلم لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة ضغط الوقت، المنافسة المهنية، وتحول المعرفة نفسها إلى سلعة تباع وتُشترى.فمع اقتصاد يعتمد على المهارات المتجددة، وثقافة رقمية تصنع هويتنا المهنية عبر ما نعرضه على وسائل التواصل، أصبح التعلم السريع وسيلة لإظهار النشاط أكثر من كونه رحلة بحث عن الفهم.وهكذا انتشرت ظاهرة"الشهادات الجاهزة"التي تُضاف إلى السير الذاتية بسرعة أكبر مما تُكتسب به المهارات التي تزعم تمثيلها.

غير أن هذا التحول ليس مجرد موجة تعليمية جديدة؛ إنه يعيد تشكيل علاقتنا بالمعرفة نفسها.فبين ضغط الإعلام الرقمي وانجذابنا للمحتوى السريع، يبدو أننا أصبحنا نفضّل“الشعور بأننا نتعلم”على عملية التعلم الحقيقية التي تتطلب جهدًا، تفكيرًا عميقًا، وصبرًا.من هنا تنطلق هذه الورقة لطرح سؤال مركزي:إلى أي مدى ساهمت موجة الكورسات السريعة في تحويل التعلم من عملية تهدف إلى بناء فهم عميق إلى نشاط اجتماعي استعراضي؟

المحور الاول:اقتصاد"التعلم السريع":عندما تصبح المعرفة سلعة

تحول التعلم خلال العقدين الاخيرين من كونه مسارا تربويا طويل النفس الى قطاع اقتصادي واسع تتنافس فيه المنصات والشركات على"زمن انتباه"المتعلم قبل تنافسها على"عمق فهمه".هذا التحول لم يات من فراغ؛ فحجم سوق تقنيات التعليم وحده يوضح كيف اصبحت المعرفة جزءا من اقتصاد الخدمات الرقمية:تقارير سوقية تقدر سوق تكنولوجيا التعليم عالميا باكثر من 163 مليار دولار في 2024 مع توقعات نمو قوية حتى 2030.

ومع اتساع الطلب على التعلم المستمر داخل الشركات، صار المنتج التعليمي الاقرب للانتشار هو ما يمكن انتاجه بسرعة وبيعه بسهولة وقياسه بمؤشرات بسيطة:عدد المسجلين، مدة المشاهدة، ونسبة الاكمال.في هذا السياق، تتقدم"الكورسات القصيرة"كحل اقتصادي منطقي للشركات:تكلفة انتاج اقل، محتوى قابل لاعادة التدوير، تسويق اسرع، وتوزيع عالمي بلا حدود مكانية، بينما يبقى الكورس العميق اشبه بمشروع بطيء العائد.كما ان سوق الدورات المفتوحة عبر الانترنت(MOOCs)يقدم اشارة اضافية الى تضخم صناعة التعلم الرقمي وتناميها بوصفها سوقا مستقلا بحد ذاته.

لكن الاهم من حجم السوق هو منطق التشغيل الذي يحكمه:منطق"المرونة"و"التجزئة".تقارير السياسات التعليمية تشرح ان ما يسمى"الاعتمادات المصغرة"micro-credentials هي تعلم منظّم اصغر واكثر استهدافا ومرونة من البرامج التقليدية، وهو تعريف يلتقط روح المرحلة:وحدات تعلم قصيرة، قابلة للتراكم احيانا، وموجهة نحو احتياج محدد.هنا يصبح التعلم اقرب الى منتج مجزا:قطعة مهارة صغيرة، مع وعد تسويقي مباشر، ومعيار"جاهزية"سريع، بدلا من كونه بناء معرفيا متسلسلا.هذا المنطق يتغذى ايضا من سوق العمل نفسه؛ فمنتدى الاقتصاد العالمي يشير الى ان 39%من المهارات الاساسية المطلوبة في سوق العمل يتوقع ان تتغير بحلول 2030، وان معظم العاملين سيحتاجون شكلا من التدريب.امام هذا التسارع، لا تبدو الدورات القصيرة مجرد نزوة تسويقية، بل استجابة اقتصادية لضغط حقيقي:شركات تريد سد فجوات مهارية بسرعة، وافراد يريدون اشارات سريعة تثبت"الملاءمة"لوظيفة او ترقية.

ومن زاوية المنصات، تعمل الخوارزميات بوصفها"وسيطا اقتصاديا"بين المحتوى والمستهلك، فتفضل ما يحقق استجابة سريعة قابلة للقياس:نقرات، اكمال، مشاركة، وتعليقات.لذلك تنجح الدروس المختصرة لانها منسجمة مع اقتصاد الانتباه:اقل احتكاكا، اسرع عائدا، واسهل انتشارا من المساقات العميقة التي تحتاج التزاما زمنيا وذهنيا.ومع الوقت، ينتقل مركز الثقل من الكتاب او المنهج الى"15 دقيقة"او"ساعة واحدة"، وتصبح المعرفة قابلة للتغليف:شهادة اكمال او رقم دورات منجزة.تقارير منصات كبرى توضح هذا التحول بوضوح؛ فمثلا اشارت كورسيرا الى ارتفاع كبير في الاقبال على الشهادات المهنية ضمن الاعتمادات المصغرة، وذكرت زيادة سنوية في التسجيلات على بعض المسارات، كما وثقت توسعا كبيرا في انتاج الدورات واطلاق الاف المساقات الجديدة خلال عام واحد.

هنا يظهر جوهر"تسليع المعرفة":القيمة تصبح مرتبطة بالشكل القابل للعرض والقياس(شهادة/شارة/سجل اكمال)اكثر من ارتباطها بقدرة المتعلم على التطبيق والتحليل.والنتيجة اننا لا نستهلك المعرفة بوصفها عملية عقلية مستمرة، بل بوصفها منتجات صغيرة متتابعة، مثل رفوف متجر:كل رف يعدك بتحسن سريع، بينما فهمك العميق يظل مؤجلا الى"وقت لاحق"لا ياتي غالبا.

المحور الثاني:التعلم كاستعراض—الشهادات بدل المهارات

مع صعود الهوية الرقمية، لم يعد التعلم شانا خاصا بين المتعلم وذاته، بل صار جزءا من"الواجهة المهنية"التي يقدمها للناس.منصات مثل LinkedIn لم تحول الشهادة الى ملف PDF وحسب، بل حولتها الى اشارة اجتماعية:سطر جديد في الملف الشخصي، تحديث يظهر للاخرين، واثبات مرئي على انك"تتطور".تقارير LinkedIn عن التعلم في بيئة العمل تكشف كيف اصبح التعلم ملتصقا بالدافع المهني:في تقرير 2024 يرد ان المتعلمين الذين يحددون اهدافا مهنية ينخرطون في التعلم بمعدل اعلى، كما يوضح منهجية مسح شمل الافا من مختصي التعلم والموارد البشرية والمتعلمين.وفي تقرير 2025 يظهر تصريح صريح بان التقدم الوظيفي هو الدافع رقم 1 للتعلم، مع مؤشرات على قلق القيادات من فجوة المهارات.

حين يصبح"الهدف"هو التقدم السريع، تغدو الشهادة وسيلة مختصرة لارسال رسالة:انا جاهز، انا مواكب، انا قابل للتوظيف.وهكذا تنتقل وظيفة التعلم من بناء القدرة الى بناء الصورة.في هذا المناخ، تعمل سيكولوجيا المقارنة الاجتماعية كوقود خفي:حين يرى الفرد تدفق الشهادات على الصفحات، يشعر بان الجميع يتقدم وهو متاخر، فيندفع ليجمع ادلة تقدم مماثلة، حتى لو كان هذا التقدم سطحيا.نظرية المقارنة الاجتماعية تفسر كيف يميل الناس الى تقييم ذواتهم عبر مقارنة انجازاتهم بانجازات الاخرين، خصوصا حين تكون المعايير غير واضحة.

ومع سيطرة العرض الرقمي، يصبح معيار"انا تعلمت"ليس القدرة على الشرح او حل مشكلة، بل القدرة على نشر دليل تعلّم.هنا يظهر التعلم كاداء Performance:فعل يقوم به المتعلم امام جمهور ضمني، لا كجهد عقلي بطيء يختبر فيه افكاره ويصحح اخطاءه.ومن ثم تتوسع"ثقافة الشارات"Badge Culture:انجازات صغيرة متتالية تمنح شعورا فوريا بالاكتمال، يشبه مكافاة سريعة اكثر من كونه بناء مهارة.دراسات حول الدوافع وراء كسب الشارات الرقمية في الدورات المفتوحة تشير الى ان جزءا مهما من الدافع يرتبط بالرغبة في اظهار الانجاز وتوثيقه، اعتمادا على بيانات واسعة النطاق من متعلمين في مساقات تمنح شارات رقمية.

المفارقة ان هذا"الاشباع السريع"قد يخلق وهما بالتقدم دون ترسيخ للفهم.علم النفس يميز بين مكافاة فورية وسلوك طويل المدى قائم على تاخير الاشباع؛ وابحاث تاخير الاشباع تبرز ان القدرة على الانتظار وتنظيم الانتباه ترتبط بكفاءات معرفية واجتماعية لاحقة.وعندما تتشكل بيئة التعلم حول مكافاة فورية(شارة بعد اختبار سهل، شهادة بعد فيديوهات قصيرة)، يصبح من المنطقي ان يختار الدماغ المسار الاقل كلفة:اكمل، احصل على اشارة، انتقل.لكن الفهم لا يعمل بهذه السرعة.الادبيات التجريبية حول"اثر الاختبار"توضح ان الاسترجاع المتكرر(الاختبار الذاتي)يحسن الاحتفاظ طويل المدى اكثر من مجرد اعادة الدراسة، لان التعلم الفعلي يحتاج ممارسة استدعاء وبناء روابط، لا مجرد تعرض للمعلومة.

لذلك يمكن تفسير ظاهرة شائعة:متعلم يجمع عددا كبيرا من الدورات، لكنه يعجز عن شرح ما تعلمه بعد فترة قصيرة، او عن تحويله الى قرار مهني او مشروع.التناقض ليس لغزا؛ انه نتيجة طبيعية لانتقال التعلم من"عملية"الى"اشارة"، ومن"تحول داخلي"الى"مظهر خارجي"سريع القياس.

المحور الثالث:تأثير السرعة على التفكير العميق:من التعلم الى الاستهلاك

اذا كان اقتصاد التعلم السريع يوفر المنتج، وثقافة الاستعراض توفر الحافز، فان بيئة المحتوى السريع توفر"العادة الذهنية"التي تجعل التعلم العميق اصعب.منصات المقاطع القصيرة اعادت تشكيل الانتباه بوصفه موردا مجزءا:ثوان قليلة، انتقال سريع، ومكافاة متكررة.دراسات حديثة تشير الى ارتباط استهلاك الفيديوهات القصيرة بمؤشرات سلوكية ومعرفية مرتبطة بتشتت الانتباه، بما في ذلك ارتباط استخدام الوسائط قصيرة المدى بسلوكيات عدم الانتباه بشكل اوضح لدى فئات عمرية اصغر.كما ان دراسة على طلبة جامعيين وجدت علاقة سلبية بين كثافة استهلاك"Reels"وبين درجات الانتباه والاداء الاكاديمي، مع ارتباطات احصائية تشير الى تراجع الانتباه مع زيادة زمن الاستهلاك.في ظل هذا النمط، يصبح الدماغ ميالا الى المحتوى الاقل جهدا:جرعة سريعة بدلا من قراءة طويلة، ملخص بدلا من منهج، و"نصائح"بدلا من بناء نموذج ذهني متماسك.

من منظور معرفي، الفرق بين التعلم العميق والتعلم السطحي ليس فرق مدة زمنية فقط، بل فرق بنية:التعلم العميق يحتاج وقتا للربط والتامل والتطبيق واكتشاف الاخطاء، بينما التعلم السطحي يكتفي بالتعرض للمعلومة دون تدريب على استدعائها او توظيفها.هنا تظهر مشكلة"التجزئة المعرفية":كل كورس يقدم نقاطا مختصرة وخطوات جاهزة و"10 Tips"، فتتكدس اجزاء منفصلة لا تتحول الى شبكة داخلية.ابحاث"التحكم المعرفي"لدى من يمارسون تعدد المهام الاعلامي تشير الى ان التعرض المزمن لبيئة مشتتة يرتبط بزيادة القابلية للتداخل من المثيرات غير ذات الصلة، بما يضعف جودة التركيز عند الحاجة الى معالجة عميقة.

وعندما ينتقل هذا النمط الى التعلم، يتغير سلوك المتعلم:يبحث عن الحل الجاهز، يكره المسائل المعقدة، ويتجنب الغموض الذي هو شرط طبيعي للتفكير النقدي.ومع ذلك، ليست السرعة"شرا"بذاتها.ادبيات المايكرو-تعلم تشير الى ان وحدات التعلم الصغيرة قد تكون فعالة في سياقات محددة اذا صممت ضمن اطار منهجي، مثل دعم التذكر، او التدريب على مهارة محددة، او التعلم اثناء العمل.

المشكلة تظهر حين تتحول السرعة الى بديل شامل:حين يصبح كل شيء مختصرا، وكل تقدم مشروطا بالاكمال السريع لا بالممارسة.لذلك تركز وثائق السياسات على قضايا الجودة والاعتراف وقابلية التراكم:الاعتمادات المصغرة قد تكون نافعة اذا كانت قابلة للبناء التدريجي، واذا كانت معاييرها واضحة ويمكن نقلها بين المؤسسات، واذا ارتبطت بتقييم ادائي لا شكلي.عندئذ فقط يمكن للسرعة ان تخدم العمق بدلا من ان تبتلعه:كورس قصير يفتح بابا، ثم قراءة، ثم تدريب متباعد، ثم مشروع، ثم تغذية راجعة.اما حين يصبح الكورس القصير"نهاية الطريق"فهو يعيد تشكيل المتعلم كمستهلك:يتنقل بين منتجات معرفية خفيفة، يراكم انطباعات لا مهارات، ويعتاد ان المعرفة شيء يستهلك لا شيء يبنى.ومن هنا نفهم اثار ذلك على المتعلم:تراجع القدرة على حل المشكلات المركبة، ضعف التفكير النقدي، وتفضيل الوصفات الجاهزة، لان العقل تدرب على السرعة لا على الصبر المعرفي.

الخاتمة

يبقى السؤال المركزي:هل الكورسات السريعة مفيدة ام مضرة؟ الاجابة الادق انها مفيدة بوصفها مكمل، وخطيرة حين تصبح بديلا وحيدا.اقتصاد التعلم السريع جاء استجابة لضغط حقيقي في سوق العمل وتسارع تغير المهارات، وتضخم سوق التعلم الرقمي يعكس هذا الواقع، كما تشير تقارير عالمية الى اضطراب كبير في المهارات المطلوبة خلال السنوات القادمة.

لكن الخطر لا يكمن في"القالب القصير"نفسه، بل في الثقافة التي تكافئ الشكل القابل للعرض اكثر من الجوهر القابل للتطبيق:شهادة بدل مهارة، شارة بدل فهم، وسجل اكمال بدل قدرة على التحليل.وعليه، التوازن الجديد المطلوب ليس حربا على الكورسات القصيرة، بل اعادة تصميم علاقتنا بها:ان تتحول من نهاية الى بداية، ومن منتج استهلاكي الى خطوة داخل مسار.المسار المتوازن يعني ان كل كورس سريع يجب ان يترافق مع قراءة معمقة، وتطبيقات، ومشاريع صغيرة، واختبارات استرجاع ذاتي، وتكرار متباعد، لان هذه هي القوانين التي يدعمها علم التعلم والذاكرة.

والخلاصة العامة اننا لا نعاني من الكورسات بقدر ما نعاني من"ثقافة السرعة"التي تجعلنا نتعلم للعرض لا للفهم؛ فحين تتغير المكافاة الاجتماعية والاقتصادية من"ما الذي تستطيع فعله؟"الى"ما الذي تستطيع اظهار امتلاكه؟"يصبح الاستعراض بديلا للفهم، ويصبح التعلم استهلاكا لا تحولا.

 

الوسائط والمرفقات

الفيديوهات (1)
التحميلات
انفجار موجة _الكورسات السريعة__ هل أصبحنا نتعلم للعرض وليس للفهم؟ .pdf
213.0 KB