1.المقدمة
تشير مجموعة البريكس، التي ولدت في منتصف العقد الاول من الالفية كاختصار لاسواق ناشئة واعدة، الى تحالف يضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب افريقيا، ثم توسع منذ 2024 ليضم دولا جديدة من الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر واثيوبيا وايران والامارات واندونيسيا.هذا التوسع دفع كثيرين الى استخدام مصطلح«بريكس بلس»للدلالة على تحول المجموعة من ناد محدود الى منصة اوسع لاعادة التوازن في النظام الاقتصادي الدولي.في الوقت نفسه، يتوسع حضور المجموعة في ارقام الاقتصاد الكلي؛ فاعضاؤها يمثلون اليوم نحو 45 في المئة من سكان العالم، وما بين 35 و40 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي العالمي محسوبا على اساس تعادل القوة الشرائية، متجاوزين في بعض التقديرات وزن مجموعة السبع الصناعية التقليدية.
في هذا السياق يكتسب سؤال معنى«التوسع»اهمية خاصة:هل نحن امام تكتل احتجاجي يعبر عن غضب الجنوب من هيمنة الغرب على مؤسسات التمويل والتجارة والدولار، ام امام مشروع بديل فعلي يسعى الى اعادة تشكيل قواعد اللعبة ذاتها؟ تثير هذه اللحظة ايضا تساؤلات حول قدرة البريكس بلس على تخطي ارث عدم التجانس بين اعضائها، اذ تجمع دولا ديمقراطية واخرى سلطوية، واقتصادات ريعية واخرى صناعية، وقوى اقليمية بينها تنافسات حادة احيانا.ومن زاوية مقابلة، يطرح التوسع تحديا على الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي والمؤسسات الغربية:هل يشكل التكتل تهديدا جديا لمكانة الدولار ولادوات النفوذ السياسي في الجنوب العالمي، ام انه مجرد اداة تفاوضية لرفع سقف المطالب لا اكثر؟
2.صعود BRICS+والتحول من كتلة احتجاجية الى قوة اقتصادية عالمية
ظهر تكتل البريكس في الاساس كنوع من«الكتلة الاحتجاجية»داخل النظام الليبرالي نفسه؛ فالدول الخمس المؤسسة لم تطرح في البداية مشروعا ثوريا يقلب طاولة العولمة، بل طالبت بنصيب اكبر في مؤسسات قائمة مثل صندوق النقد والبنك الدولي ومجموعة العشرين، بما يعكس وزنها الديموغرافي والاقتصادي المتنامي.غير ان محدودية الاصلاحات داخل تلك المؤسسات، وتركز حقوق التصويت والفيتو في يد القوى الغربية، جعل التكتل يتحول تدريجيا الى منصة للتعبير عن تذمر اوسع في الجنوب العالمي من بنية نظام ما بعد الحرب الباردة.ومع تفاقم ازمات الديون في دول افريقية ولاتينية، وتزايد الانتقادات الموجهة الى مشروطية برامج التقشف، باتت البريكس تلتقط شعورا عابرا للاقاليم بان«قواعد اللعبة»المالية صممت بحيث تضمن استمرار مركزية الغرب حتى في لحظات تعثره الاقتصادي(European Parliamentary Research Service,2024).
تسارع التوسع منذ قمة جوهانسبرغ عام 2023، حين دعت المجموعة ست دول جديدة للانضمام، قبل ان تصبح مصر واثيوبيا وايران والامارات اعضاء كاملين مطلع 2024، ثم تلحق بها اندونيسيا وتتم اسباغ طابع اكثر رسمية على عضوية السعودية خلال 2025، بينما يجري فتح باب الشراكات امام مجموعة اوسع من الدول المرشحة في افريقيا واسيا واميركا اللاتينية.هذا التسارع لا يمكن فصله عن ثلاثة عوامل مترابطة:اولا، تآكل ثقة كثير من الاقتصادات النامية بقدرة مؤسسات بريتون وودز على الاستجابة لحاجاتها التنموية في ظل ازمات المناخ والديون وسلاسل التوريد؛ ثانيا، تصاعد استخدام العقوبات المالية بعد 2014، وصولا الى تجميد احتياطيات روسيا واجبار دول عديدة على الانحياز في النزاعات الكبرى، ما عمق الشعور بان الدولار بات اداة جيوسياسية، لا مجرد عملة محايدة؛ وثالثا، بحث انظمة عدة عن مظلة سياسية واقتصادية تقلل هشاشتها امام الضغوط الاميركية والاوروبية، من دون الاضطرار الى قطيعة كاملة مع الغرب.
يعيد التوسع تشكيل خريطة الوزن المادي للمجموعة؛ فمع انضمام المنتجين الكبار للنفط والغاز مثل السعودية والامارات وايران، باتت البريكس بلس تتحكم في ما يقرب من ثلث انتاج النفط العالمي، ونسبة معتبرة من صادرات الغاز وسلع الغذاء الاستراتيجية كالقمح والارز وفول الصويا، اضافة الى تمثيلها ما بين 45 و56 في المئة من سكان العالم بحسب كيفية احتساب الشراكات الجديدة، ونحو 35 الى 44 في المئة من الناتج العالمي على اساس تعادل القوة الشرائية.
لكن السؤال الجوهري هو كيف يمكن تحويل هذا الوزن الكمّي الى ادوات نوعية تعيد تشكيل بنية النظام؟ هنا يبرز دور الاجهزة والمؤسسات التي تبنيها البريكس منذ سنوات، وعلى راسها بنك التنمية الجديد الذي يمول مشاريع للبنية التحتية والتنمية المستدامة في الدول الاعضاء وخارجها، بمحفظة قروض تجاوزت اربعين مليار دولار موزعة على اكثر من مئة مشروع، مع توجه متزايد نحو الاقراض بالعملات المحلية لتقليل مخاطر سعر الصرف والاعتماد على الدولار.كما انشأت الدول ترتيبات مالية احتياطية تكمل ادوار صندوق النقد، وتعمل مراكز المقاصة الوطنية في الصين وروسيا والهند والبرازيل على تطوير نظم مدفوعات بديلة عن«سويفت»، وتعزيز استخدام العملات المحلية في التسويات التجارية، خصوصا في تجارة الطاقة والمواد الخام، في اطار استراتيجية اوسع لـ«ازالة الدولرة»وتخفيف قابلية اقتصاداتها للتعرض للعقوبات الغربية(Carnegie Endowment for International Peace,2024;Council on Foreign Relations,2025).
مع ذلك، تبقى حدود هذه البدائل واضحة في المدى المنظور.فحجم بنك التنمية الجديد، رغم نموه، ما زال متواضعا مقارنة بمؤسسات مثل البنك الدولي او بنوك التنمية الاقليمية، كما ان مبادرات تسوية التجارة بالعملات المحلية ما زالت تتركز في قطاعات وازواج محددة، ولم تنتج بعد شبكة مالية متكاملة تضاهي البنى التحتية الغربية.اما فكرة«العملة المشتركة»التي حظيت باهتمام اعلامي واسع، فيتعامل معها معظم الخبراء كافق بعيد المدى، بل يعتبرها البعض ادوات رمزية للضغط التفاوضي اكثر من كونها مشروعا قابلا للتطبيق في ظل تباين السياسات النقدية والتجارية بين الاعضاء، وهو ما تؤكده تحليلات اقتصادية حديثة ترى ان توسيع العضوية يزيد صعوبة تحقيق تقارب نقدي حقيقي.
يكتسب هذا المسار بعدا اضافيا اذا وضعناه في سياق التحولات التكنولوجية والبيئية الجارية.فصعود نماذج الذكاء الاصطناعي الضخمة، وحاجتها الى طاقة كهربائية هائلة ومعادن نادرة وبنى تحتية سحابية، يعيد تعريف معادلة القوة في الاقتصاد العالمي، اذ تمتلك دول البريكس بلس مجتمعة حصة كبيرة من احتياطيات الكوبالت والليثيوم والمعادن الحرجة اللازمة للانتقال الطاقي، الى جانب اسواق داخلية ضخمة قادرة على استيعاب الاستثمارات في البيانات والاتصال.كما ان بعض اعضاء التكتل، مثل الصين والهند والبرازيل، يطورون استراتيجيات وطنية طموحة في مجالات التقنيات الخضراء والرقمية، ما يفتح المجال امام تصور«سلاسل قيمة بديلة»تقودها قوى من الجنوب بدلا من الاقتصادات الغربية حصرا(Carnegie Endowment for International Peace,2024).
3.التحديات الداخلية—كتلة كبيرة ام فسيفساء مصالح؟
اذا كان المحور الاول يبرز صعود البريكس بلس كقوة مادية محتملة، فان المحور الثاني يكشف الوجه الاخر للصورة:فسيفساء معقدة من المصالح والتنافسات قد تحول دون تحول الوزن الاقتصادي والديموغرافي الى قطب سياسي متماسك.فالتحالف يجمع قوى مختلفة جدا من حيث الموقع الجغرافي والانظمة السياسية والاولويات الاستراتيجية.يكفي النظر الى العلاقة المتوترة بين الصين والهند لكي ندرك عمق هذه التباينات؛ الدولتان تنخرطان في نزاعات حدودية مزمنة، وتتنافسان على النفوذ في المحيطين الهندي والهادئ، وتتبنيان رؤى متباينة تجاه مبادرة«الحزام والطريق»والتحالفات مع الغرب.ومع ان كليهما يرى في البريكس منصة لتوسيع هامش المناورة ازاء الولايات المتحدة، فان نيودلهي مثلا حريصة في الوقت نفسه على عضويتها في ترتيبات مثل«الرباعية»مع واشنطن وطوكيو وكانبيرا، ما يجعلها مترددة تجاه اي توجه لتحويل التكتل الى محور مناهض للغرب تقوده بكين(Council on Foreign Relations,2025;Carnegie Endowment for International Peace,2024).
تتشابك التنافسات الاقليمية ايضا في الشرق الاوسط والقرن الافريقي، حيث تنضم السعودية وايران ومصر واثيوبيا الى التكتل وهي تحمل ملفات صراع حادة حول التوازن الاقليمي والممرات المائية والملفات الامنية.فالصراع الايراني السعودي، رغم مسار التهدئة الاخيرة، ما يزال يحمل احتمالات انتكاس في ملفات النفوذ الاقليمي والطاقة والامن البحري.والنزاع بين مصر واثيوبيا حول سد النهضة وتقاسم مياه النيل يضع دولتين من البريكس بلس على طرفي نقيض في قضية وجودية يصعب تصور تسويتها داخل اطار اقتصادي فضفاض.كما تختلف مواقف اعضاء التكتل جذريا من حرب اوكرانيا والعلاقة مع روسيا؛ فبينما ترى موسكو في البريكس اداة لكسر العزلة الغربية، تحرص دول اخرى، مثل الهند والبرازيل وجنوب افريقيا، على تجنب الانجرار الى محور روسي صريح، وتحاول توظيف التكتل كمنصة وساطة او توازن لا كتحالف عسكري سياسي(Le Monde,2025;European Parliamentary Research Service,2024).
يضاعف من هذه التناقضات اختلاف النماذج الاقتصادية داخل المجموعة.فهناك اقتصادات سوق ليبرالية نسبيا مثل البرازيل وجنوب افريقيا والهند، واقتصادات موجهة ذات حضور قوي للدولة مثل الصين وروسيا واثيوبيا، واقتصادات ريعية تعتمد بدرجات متفاوتة على صادرات النفط والغاز مثل السعودية وايران والامارات.هذا التنوع قد يكون مصدر قوة من حيث التكامل في الموارد والاسواق، لكنه يصعب ايضا تصور تبني سياسات نقدية ومالية منسقة على غرار ما هو قائم في الاتحاد الاوروبي، ويجعل النقاش حول«عملة مشتركة»اقرب الى الطموح الرمزي منه الى المشروع الواقعي، خصوصا في ظل اختلاف مستويات التضخم، واستقلالية البنوك المركزية، وانظمة سعر الصرف بين الاعضاء.كما تتباين اولويات السياسات الصناعية والتجارية؛ فالصين مثلا تركز على تعميق سلاسل القيمة الصناعية والتكنولوجية، بينما تضع دول نفطية في الصدارة استراتيجيات تنويع اقتصادي بطيئة نسبيا، وتبحث اقتصادات افريقية عن حلول عاجلة لازمة الديون والبنية التحتية الاساسية(European Parliamentary Research Service,2024;Carnegie Endowment for International Peace,2024).
تنعكس هذه الفوارق على بنية الحوكمة داخل البريكس بلس.فالتكتل لا يمتلك حتى الان مؤسسات فوق وطنية قادرة على فرض التزامات ملزمة، بل يعمل من خلال آليات توافقية واجتماعات قمة ووزراء، مع هامش كبير للمناورة الوطنية.هذا النمط يوفر مرونة تجذب دولا تتحفظ على التنازل عن السيادة، لكنه يحد في المقابل من قدرة التكتل على اتخاذ مواقف موحدة في القضايا الحساسة، او تنفيذ مشاريع مشتركة واسعة النطاق في زمن محدد.ويبدو بنك التنمية الجديد مثالا دالا؛ فبرغم اهميته الرمزية والعملية، ما تزال قراراته الاستثمارية مرتبطة بدرجة كبيرة بحسابات الحكومات المساهمة، وتتحرك بوتيرة ابطأ بكثير من احتياجات دول تعيش ازمات ديون ومناخ حادة، وهو ما اشارت اليه تحليلات عديدة لمحدودية القدرة التنفيذية لمؤسسات الجنوب الناشئة مقارنة بنظرائها الغربية الراسخة(New Development Bank,2025;Reuters,2025;Carnegie Endowment for International Peace,2024).كما ان غياب امانة عامة قوية او برلمان مشترك او اليات رسمية لتسوية النزاعات يترك الكثير من الملفات رهينة للتفاهمات الشخصية بين القادة، وهو نمط حكم اثبت محدوديته في تكتلات دولية سابقة.
يضاف الى ما سبق اختلاف الخطابات الايديولوجية والقيمية بين الاعضاء؛ فبينما تقدم بعض دول البريكس بلس نفسها كمدافعة عن«سيادة الجنوب»في مواجهة التدخلات الغربية، تمارس في الوقت نفسه سياسات داخلية مثيرة للجدل في مجالات حقوق الانسان والحريات السياسية، ما يضعف قدرتها على بناء سردية اخلاقية مقنعة لشعوبها وللعالم.كما لا تتقاطع دائما مواقف الاعضاء في ملفات المناخ والتحول الطاقي والتنظيم الرقمي؛ فجزء من التكتل يعتمد اقتصاديا على صادرات الوقود الاحفوري، في حين تتبنى دول اخرى اهدافا اكثر طموحا في الحياد الكربوني، الامر الذي ينعكس في مواقف متباينة خلال مفاوضات المناخ في اطار الامم المتحدة او منظمة التجارة العالمية.هذه الفجوات في الرؤى تجعل من الصعب على البريكس بلس ان تقدم نفسها كبديل متماسك لنموذج الحوكمة الليبرالية، وتدفع نحو صيغة هجينة تتجاور فيها شعارات العدالة الدولية مع استمرار منطق المصالح الوطنية الضيقة(European Parliamentary Research Service,2024;Carnegie Endowment for International Peace,2024).
4.ردة الفعل الغربية—تهديد جدي ام مبالغة؟
يثير توسع البريكس بلس نقاشا واسعا في العواصم الغربية حول مدى جدية التهديد الذي يمثله لصيغة الهيمنة التي تشكلت منذ نهاية الحرب الباردة.في الخطاب الاميركي والاوروبي تظهر ثلاثة هواجس مركزية:اولا، احتمال تآكل مكانة الدولار كعملة احتياط عالمية اذا نجحت جهود«ازاحة المخاطر»و«ازالة الدولرة»التي تتبناها بعض دول التكتل، خصوصا في تجارة الطاقة والمعادن؛ ثانيا، خشية من خسارة نفوذ سياسي متراكم في الجنوب العالمي اذا وجدت الدول النامية مصادر تمويل واستثمار بديلة عن صندوق النقد والبنك الدولي والاسواق الغربية؛ وثالثا، القلق من ان يؤدي تبلور تكتل واسع يجمع قوى مثل الصين وروسيا والهند والسعودية وايران الى تسريع الانتقال نحو عالم متعدد الاقطاب تصبح فيه قدرة الغرب على فرض اجنداته الامنية والاقتصادية اكثر محدودية.تعبر تقارير مراكز ابحاث غربية عن هذه المخاوف من خلال التركيز على ان البريكس بلس ليست مجرد«نادي نقاش»بل منصة محتملة لاعادة هندسة قواعد التجارة والطاقة والتمويل(Council on Foreign Relations,2025;Carnegie Endowment for International Peace,2024).
في المقابل، يميل جزء مهم من التحليلات الغربية الى التشكيك في قدرة البريكس بلس على التحول الى بديل حقيقي، ويستند في ذلك الى عدد من الحجج.اول هذه الحجج هو عدم تجانس الاعضاء، كما سبق بيانه، ما يجعل من الصعب بناء مواقف موحدة في ملفات معقدة مثل اصلاح صندوق النقد او اعادة هيكلة الديون او وضع قواعد للمنافسة التكنولوجية.الحجة الثانية تتعلق بغياب مؤسسة فوق وطنية تتولى تنسيق السياسات وتجاوز الحسابات السياسية الداخلية، على عكس ما هو قائم في الاتحاد الاوروبي مثلا؛ اذ يبقى كل عضو في البريكس بلس يحتفظ بهوامش واسعة لعقد اتفاقات ثنائية مع واشنطن او بروكسل او طوكيو بعيدا عن اطر التكتل.اما الحجة الثالثة فتتمثل في ان عددا من الاعضاء الجدد ما زال معتمدا بدرجة كبيرة على الاستثمارات الغربية والتكنولوجيا والاسواق المالية، ما يجعل القطيعة مع الغرب، او حتى تبني سياسات تصعيدية حادة ضده، مكلفة للغاية من منظور النخب الحاكمة في تلك الدول(House of Commons Library,2024;European Parliamentary Research Service,2024).
امام هذا المزيج من القلق والتشكيك، طورت الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي استجابات متنوعة ازاء صعود البريكس بلس.على المستوى الاستراتيجي، تواصل واشنطن بناء شبكات تحالفات امنية وسياسية في المحيطين الهندي والهادئ لموازنة صعود الصين تحديدا، عبر ترتيبات مثل«الرباعية»و«اوكوس»، مع تعميق الشراكات الدفاعية والتكنولوجية مع اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا والهند.كما تسعى الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي الى تقديم مبادرات بديلة لتمويل البنية التحتية في الجنوب العالمي، مثل«الشراكة من اجل البنية التحتية العالمية والاستثمار»، في محاولة لمنافسة جاذبية التمويل الصيني ومشاريع بنك التنمية الجديد.وفي موازاة ذلك، توسع العواصم الغربية انخراطها الاقتصادي والسياسي مع دول الخليج وافريقيا واميركا اللاتينية، لضمان الا تتحول هذه المناطق الى ساحات نفوذ حصرية للصين وروسيا تحت مظلة البريكس(Council on Foreign Relations,2025;Carnegie Endowment for International Peace,2024).
على المستوى المالي، لا تزال ادوات الهيمنة الغربية قوية؛ فالدولار واليورو يهيمنان على احتياطيات البنوك المركزية ومعاملات التجارة العالمية، وشبكات الدفع مثل«سويفت»وشركات البطاقات العالمية ما تزال البنى التحتية الرئيسة للتسويات.لذلك تركز الاستراتيجيات الغربية في المدى القريب على«ادارة»جهود ازالة الدولرة بدلا من منعها بالكامل؛ بمعنى تخفيف استخدام العقوبات المالية العشوائية التي تغذي السعي الى بدائل، وتطوير قنوات تعاون مع بعض اعضاء البريكس بلس في مجالات المناخ والديون والذكاء الاصطناعي، بما يقلل الحوافز لديهم للانحياز الكامل الى معسكر مواز.كما تراهن العواصم الغربية على استمرار جاذبية اسواقها المالية والتكنولوجية والجامعية، وعلى قدرة شركاتها متعددة الجنسية على فرض معاييرها في سلاسل القيمة العالمية، وهي عوامل تجعل من الصعب على معظم دول الجنوب فك الارتباط مع الغرب حتى لو توسعت خياراتها.
في ضوء هذه المعادلة المعقدة يمكن تقديم تقييم نقدي لتأثير البريكس بلس من منظور غربي.فمن جهة، لا يمكن انكار ان التكتل بات يمثل«وزنا مضادا»حقيقيا، يتيح للدول النامية التفاوض من موقع اقوى مع صندوق النقد وشركات الطاقة والدول الكبرى، ويمنح الصين وروسيا والهند منصات اضافية لطرح روايات بديلة عن الهيمنة الليبرالية.ومن جهة اخرى، تبدو صورة«البديل الكامل»عن الغرب مبالغا فيها في المدى المنظور؛ فالمؤسسات المالية والقانونية والتكنولوجية التي رسخها الغرب خلال عقود لا تزال تمتلك عمقا لا يضاهيه ما بناه التكتل حتى الان، كما ان جزءا من دول البريكس بلس يفضل استخدام التعددية القطبية لزيادة مساحة المناورة لا لاستبدال محور باخر.لذلك يميل كثير من المحللين الى رؤية البريكس بلس لاعبا مكملا في عملية ارساء تعددية قطبية تدريجية، اكثر منه قاطعا جذريا مع النظام الدولي القائم(Council on Foreign Relations,2025;Carnegie Endowment for International Peace,2024;House of Commons Library,2024).
5.الخاتمة
تكشف قراءة توسع البريكس بلس عن مفارقة اساسية:فالتكتل يجمع بين وزن مادي متزايد في السكان والموارد والناتج، وبين بنية داخلية ومؤسسية ما تزال هشة اذا قيست بالمعايير التي رسخها الغرب في مؤسساته المالية والتجارية.اظهر المحور الاول كيف انتقلت المجموعة من موقع«الكتلة الاحتجاجية»الى محاولة بناء ادوات بديلة في التمويل والتسويات التجارية، بدافع تآكل الثقة بالمؤسسات الغربية وتصاعد استخدام العقوبات، بينما بين المحور الثاني ان التنافسات الاقليمية وتباين النماذج الاقتصادية وغياب مؤسسات فوق وطنية فاعلة تحد من قدرة التكتل على التحول الى قطب منسق.وابرز المحور الثالث ان الغرب، وان كان لا يرى في البريكس بلس بديلا كاملا في المدى القريب، بات يتعامل معه كلاعب لا يمكن تجاهله في اعادة رسم خريطة النفوذ في الجنوب العالمي.
في ضوء ذلك يمكن القول ان مستقبل البريكس بلس سيتوقف على ثلاثة عوامل مترابطة:قدرة الاعضاء على ادارة تناقضاتهم الداخلية وبناء حد ادنى من التماسك؛ ونجاحهم في تطوير مؤسسات تمويل ومدفوعات تقدم شروطا عملية وجذابة للدول النامية؛ ومهارتهم في جذب مزيد من الاعضاء والشركاء من دون ان يفقد التكتل مرونته.البريكس بلس ليست نهاية النظام العالمي الحالي، لكنها علامة على بداية مرحلة جديدة من اعادة توزيع النفوذ، حيث تتراجع هيمنة قطب واحد لمصلحة تعددية اكثر تعقيدا في مراكز القوة وقواعد العولمة.

التعليقات