لماذا تصبح الصداقة أصعب بعد الثلاثين؟

كلما تقدّم بنا العمر وتكاثرت المسؤوليات، تضيق الدوائر من حولنا، فتصبح الصداقة الحقيقية نادرة… لكنها أيضًا أعمق وأكثر قيمة من أي مرحلة سابقة.

لماذا تصبح الصداقة أصعب بعد الثلاثين؟

مقدمة

تبدو الصداقة، في المخيال الجمعي، علاقة بسيطة تتكوّن تلقائيًا في المدرسة والجامعة وأماكن اللعب والعمل الأولى، لكن مع التقدّم في العمر–خصوصًا بعد الثلاثين–تتحوّل هذه البساطة إلى معادلة معقّدة:وقت أقل، مسؤوليات أكثر، ودوائر اجتماعية تتقلّص ببطء حتى يشعر كثيرون بما يشبه"الانقراض البطيء"للأصدقاء.في السنوات الاخيرة انتشر مصطلح"ركود الصداقة"Friendship Recession لوصف تراجع أعداد الاصدقاء المقربين لدى البالغين، حيث تشير بيانات مسح اميركي إلى ان نسبة البالغين الذين يصرّحون بأنهم بلا اصدقاء مقربين تضاعفت عدة مرات منذ تسعينيات القرن الماضي، مع تراجع واضح في عدد من يمتلكون شبكات صداقة واسعة(Survey Center on American Life,2021).هذا التراجع لا يحمل بعدًا عاطفيًا فقط؛ بل يرتبط أيضًا بالرفاه النفسي والجسدي، إذ تُظهر مراجعات منهجية ان وجود صداقات قوية يرتبط بمستويات اعلى من الرفاه والشعور بالمعنى، بينما يقترن الشعور بالوحدة والعزلة بزيادة مخاطر الوفاة والامراض المزمنة.

تُظهر نظريات علم النفس الاجتماعي، مثل نظرية"الانتقائية الانفعالية"التي طوّرتها لورا كارستنسن، ان البالغين مع تقدّم العمر يميلون إلى تقليص عدد العلاقات لصالح علاقات اكثر عمقًا ومعنى، وهو ما يفسّر جزئيًا لماذا تصبح"الكمية"اقل بينما تزداد"النوعية"اهمية بعد الثلاثين(Carstensen,1992;Carstensen,1995).لكن هذا التحوّل البنيوي يتقاطع مع سياقات اقتصادية وثقافية ضاغطة:تحوّلات العمل المرن، الهجرة الداخلية والخارجية، صعود منصات التواصل الاجتماعي، وضغوط اداء مستمرة في مجالات المهنة والاسرة.هكذا تصبح الصداقة بعد الثلاثين سؤالًا بنيويًا بقدر ما هو نفسي:لماذا تتناقص الدوائر؟ وهل يمكن اعادة بنائها بوعي، لا بالحنين فقط؟

المحور الاول:التحوّلات الاجتماعية والنفسية بعد الثلاثين وتأثيرها على بنية الصداقة

مع دخول العقد الثالث من العمر، تتغيّر البنية اليومية لحياة الافراد بصورة جذرية:يتحوّل"الوقت الحر"إلى مورد نادر، إذ تتزاحم الالتزامات المهنية(الدوام الطويل، ضغوط الترقّي، العمل الحر)، والادوار الاسرية(الزواج، التربية، رعاية الوالدين الكبار في السن)، والضغوط الاقتصادية(تكاليف السكن، التعليم، الصحة).هذه التحوّلات لا تقلّص فقط عدد الساعات المتاحة للقاء الاصدقاء؛ بل تعيد ترتيب سلم الاولويات النفسي:تصبح الاستمرارية المهنية والاستقرار الاسري شرطًا للبقاء، بينما تُدفع الصداقة–خصوصًا غير المنظمة زمنيًا–إلى الهامش.تشير دراسات عن انماط العلاقات في الراشدين إلى ان دائرة المعارف الواسعة التي تميّز مرحلة الجامعة وبداية العمل تميل إلى الانكماش مع التقدّم بالعمر، في حين يحافظ الفرد على عدد محدود من الاصدقاء المقربين الذين يلعبون دورًا محوريًا في الدعم الانفعالي(Carstensen,1992;Carstensen,1995).

من الناحية النفسية، يتزامن هذا التحوّل البنيوي مع تغيّر في احتياجات الفرد من العلاقات.في العشرينيات، غالبًا ما يخدم الاحتكاك الاجتماعي وظيفة"الاستكشاف":اكتشاف الذات، التجريب، بناء هوية مهنية وثقافية، وتوسيع الشبكات.اما بعد الثلاثين فيصبح الهدف الاساسي من العلاقات هو"التنظيم الانفعالي"والشعور بالمعنى والانتماء، كما تفترض نظرية الانتقائية الانفعالية التي ترى ان ادراك محدودية الوقت المتاح في الحياة يدفع الناس إلى تفضيل علاقات اقل عددًا وأكثر قربًا(Carstensen,1995).ووفقًا لهذه الرؤية، لا تعدّ ندرة الاصدقاء بعد الثلاثين ظاهرة سلبية بالضرورة؛ بل هي، جزئيًا، تعبير عن اختيار واعٍ لتركيز الطاقة الاجتماعية على العلاقات الاكثر جودة، وهو ما تبيّنه دراسات تشير إلى ان كبار السن يمتلكون شبكات اصغر لكن مستوى الرضا عن العلاقات فيها لا يقلّ عن الشباب(Carstensen,1992).

مع ذلك، لا يمكن تفسير"ندرة الصداقة"بعد الثلاثين فقط عبر منطق الانتقائية الصحية.فهناك عنصر آخر هو"تراجع المساحات المشتركة"التي كانت متاحة في المدرسة والجامعة، حيث الالتقاء اليومي شبه الاجباري كان يخلق، بالضرورة، فرصًا لا حصر لها للحديث، المزاح، ومراكمة التاريخ المشترك.في سن النضج، تصبح العلاقات اشبه بمشاريع تحتاج إلى تخطيط واستثمار واعٍ:تحديد موعد، التنسيق بين جداول متضاربة، وحسم اسئلة مثل:"هل تستحق هذه العلاقة ان اخصّص لها جزءًا من وقتي القليل؟".هنا يظهر مفهوم"الطاقة الاجتماعية"؛ إذ يشعر كثيرون بأنهم بعد يوم عمل طويل والتزامات اسرية شاقة لا يملكون ما يكفي من الطاقة النفسية للحضور الحقيقي في لقاءات صداقة متكررة، حتى لو كانوا يحتاجون إليها.هذه المعادلة المعقّدة بين الحاجة إلى الدعم العاطفي وبين محدودية الطاقة تخلق مفارقة:نحتاج إلى الاصدقاء اكثر من اي وقت مضى، لكننا اقل قدرة على الاستمرار في رعاية هذه العلاقات.

يضاف إلى ذلك عامل"ارتفاع سقف التوقعات"من الصداقة في هذه المرحلة.بعد خبرات خيبة وخذلان في العشرينيات، يميل كثيرون إلى تبنّي تعريف مثالي للصديق"الحقيقي":شخص متاح دائمًا، متفهم، آمن، خالٍ من المصالح، يشبهنا في القيم والرؤى، ويستطيع احتواء ازماتنا المتكررة.هذه المعايير العالية–وإن كانت تعكس رغبة مشروعة في علاقة صحية–تجعل من دائرة المرشحين المحتملين للصداقة دائرة ضيقة جدًا، بحيث يتم استبعاد الكثير من العلاقات الممكنة لأن اصحابها لا يستوفون"الكمال العاطفي"الذي بنيناه نظريًا.وهكذا، تلتقي العوامل البنائية(الوقت، المسؤوليات، تراجع المساحات المشتركة)مع العوامل النفسية(الانتقائية، محدودية الطاقة الاجتماعية، ارتفاع التوقعات)لتنتج حالة"ندرة"في الصداقات المستدامة بعد الثلاثين.

المحور الثاني:التحديات البنيوية في تشكيل صداقات جديدة في مرحلة النضج

اذا كان المحور الاول يفسّر لماذا تتقلّص دوائر الصداقة القديمة، فإن المحور الثاني يركّز على السؤال الاكثر صعوبة:لماذا يصبح تكوين صداقات جديدة بعد الثلاثين مهمة شبه مستحيلة لدى كثيرين؟ احد الاجوبة الجوهرية يكمن في تقلّص"الدوائر الاجتماعية الطبيعية":في المراحل الدراسية المبكرة يتولّى النظام التعليمي تنظيم البيئة الاجتماعية بشكل تلقائي، فيضع الناس في صفوف وجماعات ومشاريع مشتركة، بينما توفّر الانشطة الطلابية والاندية والمساكن الجامعية فرصًا متكررة لتعارف عفوي ومنخفض المخاطر.في المقابل، حياة البالغين بعد الثلاثين اكثر تفككًا:بيئات العمل غالبًا ما تحكمها علاقات رسمية محكومة بالتراتبية والمنافسة، والفرص المنظمة للقاءات الجديدة(نوادٍ، دورات، مبادرات مجتمعية)تتطلّب جهدًا واستثمارًا واعيًا لا يبادر إليه الجميع.

تُظهر تحليلات حديثة ان"الوقت الحر القابل للمشاركة"يتضاءل مع تعدّد الادوار، وأن معالم الحياة الحديثة–مثل التنقل للعمل، العمل عن بعد، الهجرة إلى مدن جديدة–تعني ان البالغين يفقدون البنى التحتية الاجتماعية التي كانت تربطهم بالجيران والاقارب والزملاء بصورة مستمرة(Pezirkianidis et al.,2023).يساهم ذلك في شعور عام بما يشبه"ركود الصداقة"، حيث تنكمش الشبكات الاجتماعية، ويزداد الاعتماد على الشريك او الاسرة النووية كمصدر شبه وحيد للدعم العاطفي، ما يعمّق هشاشة الفرد في حال وقوع ازمات او انفصال.وتضيف دراسات اخرى ان هذا الانكماش لا يتوزع بالتساوي بين الفئات؛ فالرجال مثلًا يميلون إلى فقدان الروابط الحميمة بوتيرة اسرع، ويعتمد كثير منهم على الشريك العاطفي كمصدر رئيسي للدعم، ما يجعلهم اكثر عرضة للوحدة عند الطلاق او الترمل(Survey Center on American Life,2021).

التحدي البنيوي الثاني يتعلّق بالبُعد الانفعالي:الخوف من الرفض ومن الاستثمار العاطفي غير المتبادل.في مرحلة النضج يكون لدى الفرد سجل طويل من الخيبات؛ علاقات توقّف فيها عن العطاء من طرف واحد، صداقات انقطعت فجأة، او تجارب ثقة انتهت بالإيذاء.هذه الخبرات تدفع كثيرين إلى حماية أنفسهم من خلال تقليل المخاطرة:تجنّب المبادرة في التعارف، والتريّث الطويل قبل الافصاح عن الذات، وقراءة اي إشارة تباعد او انشغال لدى الطرف الآخر باعتبارها"رفضًا مقنّعًا".علم النفس الاجتماعي يبيّن ان تكوين الصداقة يتطلّب قدرًا من"الهشاشة المشتركة":ان يكشف كل طرف عن نفسه تدريجيًا، وان يقبل احتمالية ان لا تُردّ هذه الهشاشة بالشكل نفسه.ومع تزايد الحساسية للرفض في سن النضج، يصبح الدخول في هذه المعادلة اكثر كلفة نفسية، ما يغذي حلقة مفرغة من الانسحاب الاجتماعي والشعور المتزايد بالعزلة.

على المستوى الثقافي، تلعب المقارنات المستمرة دورًا غير مرئي في تعميق عزلة الافراد.منصات التواصل الاجتماعي تكثّف هذا البعد عبر عرض صور انتقائية لحياة الآخرين:مجموعات من الاصدقاء في الرحلات، احتفالات مشتركة، شبكات دعم تبدو متماسكة.هذا التدفق المرئي يخلق وهمًا مفاده ان"الجميع لديهم دوائر ثابتة إلا انا"، في حين تشير الابحاث إلى ان كثيرًا من هذه الصور لا تعكس بالضرورة عمق العلاقات او استقرارها، بل قد تخفي شعورًا داخليًا بالوحدة لدى اصحابها أنفسهم(Fernández et al.,2025).هنا يتحوّل السوشيال ميديا من فضاء محتمل للتواصل إلى مرآة قاسية تعمّق الاحساس بالفشل الاجتماعي، خاصة حين تُربط الصداقة بمقاييس كمية ظاهرة(عدد الاصدقاء، حجم التفاعلات، كثافة الظهور الجماعي في الصور).

يضاف إلى ذلك ان التكنولوجيا اعادت تشكيل طبيعة اللقاءات ذاتها.فالتواصل الرقمي–عبر الرسائل ومجموعات الواتساب ومنصات التواصل–اصبح اكثر شيوعًا من اللقاءات وجهاً لوجه لدى كثير من البالغين، خاصة خلال وبعد جائحة كورونا، حين حلّت الاجتماعات الافتراضية محل اللقاءات الواقعية في مجالات عديدة.تُظهر دراسات حديثة ان جودة التفاعل الاجتماعي تختلف باختلاف الوسيط، وان التواصل الرقمي، رغم فوائده في الحفاظ على الروابط البعيدة، لا يعوّض بالكامل عن الثقة والحميمية المتولدة من التواصل وجهاً لوجه(Newson et al.,2021;Fernández et al.,2025).هذا لا يعني ان العلاقات الافتراضية وهمية بالضرورة، لكن الاعتماد المفرط عليها–مع نقص اللقاءات الواقعية–يؤدي إلى علاقات"خفيفة الوزن":كثيرة من حيث العدد، ولكن محدودة العمق، لا يمكن الاتكال عليها في لحظات الازمة.

التحدي البنيوي الاخير يتصل بطبيعة الروابط التي تُبنى في سن النضج؛ اذ يزداد حضور العلاقات القائمة على الفائدة او المصلحة المهنية:شراكات عمل، شبكات"التواصل المهني"networking، علاقات مبنية على تبادل الفرص او الخبرات.هذه العلاقات ليست سلبية بذاتها، بل قد تتحوّل إلى صداقات حقيقية في بعض الحالات، لكنها غالبًا ما تظل محكومة بلغة المنفعة، ما يصعّب تحويلها إلى روابط عاطفية متبادلة تخلو من حسابات الربح والخسارة.ومع تغيّر تعريف"الصديق الحقيقي"لصالح معايير الموثوقية والدعم العميق، تصبح هذه الشبكات المهنية–على اتساعها–غير كافية لسدّ الفجوة الوجدانية التي يشعر بها الكثيرون في منتصف العمر.

المحور الثالث:استراتيجيات واعية لإعادة بناء الدوائر الاجتماعية في سن النضج

امام هذا المشهد المعقّد، لا يكفي الحنين إلى"بساطة الصداقة"في المراحل السابقة؛ بل يصبح المطلوب هو تطوير استراتيجيات واعية تتناسب مع شروط حياة البالغين.البحث في علم النفس الاجتماعي وعلم النفس الصحي يبيّن ان العلاقات الداعمة ليست ترفًا؛ بل عامل حماية اساسيًا ضد الامراض الجسدية والنفسية، حيث تشير مراجعات تحليلية إلى ان قوة العلاقات الاجتماعية ترفع احتمالات البقاء على قيد الحياة بنسبة تقارب 50٪ مقارنة بمن يعانون من عزلة وعلاقات ضعيفة، بينما يُعد الشعور المزمن بالوحدة عامل خطر صحيًا يقارب في تأثيره التدخين او السمنة(Holt-Lunstad et al.,2010;Holt-Lunstad et al.,2015).

اول هذه الاستراتيجيات يتمثل في خلق مساحات مشتركة جديدة تعوّض المساحات التي فقدناها بعد المدرسة والجامعة.يمكن ان تكون هذه المساحات نوادي قراءة، مجموعات تعلّم لغات، فرق رياضية للهواة، مبادرات تطوعية محلية، ورش عمل مهنية صغيرة، او حتى لقاءات دورية حول هوايات محددة(التصوير، البرمجة، الزراعة الحضرية).الفكرة الأساسية هي تحويل العلاقات من"لقاءات طارئة"إلى"طقوس اجتماعية"متكررة، حيث يُظهر البحث ان انتظام اللقاءات ووجود نشاط مشترك يجعل بناء الثقة والتاريخ المشترك اكثر سهولة بكثير من اللقاءات العرضية.كما ان الانخراط في مجتمعات صغيرة حول اهتمامات مشتركة يقلّل من كلفة المبادرة، لأن التركيز يصبح على النشاط، لا على"انطباعنا عن انفسنا"في لحظة التعارف.

الاستراتيجية الثانية هي تبنّي ما يمكن تسميته"الانفتاح المقصود"Intentional Openness؛ اي ان يتخذ الفرد قرارًا واعيًا بكسر دائرة الانسحاب والخجل من المبادرة.يتضمّن ذلك مهارات صغيرة ولكنها حاسمة:بدء حوار بسيط مع زميل جديد، اقتراح لقاء قهوة بعد العمل، التعبير عن الرغبة في البقاء على تواصل بعد حضور دورة او ورشة، او حتى ارسال رسالة متابعة لشخص كانت معه كيمياء جيدة في لقاء جماعي.تُشير ادبيات علم النفس الاجتماعي إلى ان الناس يميلون إلى التقليل من تقدير مقدار الترحيب الذي يلقاه هذا النوع من المبادرات، اي اننا نظن ان الآخرين لن يهتموا، بينما تُظهر الدراسات ان معظم الناس يثمّنون المبادرة اكثر مما نتوقع.

الاستراتيجية الثالثة تتعلّق بإعادة إحياء العلاقات القديمة بطريقة صحية.كثيرون يملكون في ذاكرتهم صداقات انقطعت بفعل السفر، تغير ظروف الحياة، او سوء تفاهم لم تتم معالجته.في سن النضج يمكن–بشروط معينة–اعادة فتح هذه القنوات، خاصة حين يكون هناك تاريخ مشترك عميق.لكن اعادة احياء العلاقات لا ينبغي ان تقوم على الحنين وحده او على محاولة استنساخ الماضي كما هو؛ بل على تفاهم جديد يعترف بتغيّر الاشخاص وظروفهم.خطوة بسيطة كرسالة صادقة تقول:"اتذكرك، وأحب ان نعرف اين وصل كل منا الآن"قد تكون بداية لترميم علاقة كانت ذات معنى، بشرط ان نقبل احتمال ان يكون الطرف الآخر قد تغيّر ولم يعد مستعدًا للاستثمار كما في السابق.بهذه الطريقة، يتحوّل الماضي من مصدر الم وخيبة إلى مصدر محتمل لتوسيع الدائرة الحالية.

اما الاستراتيجية الرابعة فهي"الاستثمار التدريجي"في العلاقات دون اثقال او توقعات عالية مبكرة.كثير من خيبات الصداقة بعد الثلاثين تنشأ من التوقع بأن علاقة واعدة يجب ان تتحول بسرعة إلى صداقة عميقة تشبه"الصديق القديم".هذا التسرّع يجعلنا نقرأ اي تعثّر او تأجيل او اختلاف بسيط باعتباره مؤشرًا على ان العلاقة غير صالحة.في المقابل، يمكن التعامل مع العلاقات الجديدة بمنطق"الاستثمار على مراحل":لقاءات قصيرة متكررة، مشاركة تجارب صغيرة، اختبار انسجام القيم وطريقة حل الخلافات، ثم تعميق مستوى الافصاح عن الذات تدريجيًا.هذا النمط يتوافق مع ما تشير إليه الابحاث حول تشكّل الثقة، إذ تحتاج الثقة إلى تكرار وتراكم خبرات إيجابية صغيرة، لا إلى اعلان نوايا كبير في البداية.

الاستراتيجية الخامسة تتمحور حول الحدود الشخصية والتوقعات الواقعية.في سن النضج لا تكون الصداقة علاقة اندماج كامل، بل علاقة بين شخصين يحمل كل منهما التزامات عديدة.لذلك تصبح القدرة على وضع حدود واضحة–مثل احترام زمن التواصل، عدم تحويل الصديق إلى"معالج نفسي مجاني"دائمًا، وقبول ان لديه اولويات اخرى–شرطًا لاستدامة العلاقة.الحدود الصحية لا تقلّل من عمق الصداقة؛ بل تحميها من الاحتراق والانهاك.في الوقت ذاته، يساعد ضبط التوقعات الواقعية على تقليل مشاعر الخذلان:الصديق لن يكون متاحًا في كل لحظة، ولن يتفق معنا في كل شيء، ولن يقدّم النوع نفسه من الدعم الذي نمنحه له بالضرورة.قبول هذه الحقيقة يتيح لنا الاستمتاع بما تمنحه العلاقة فعليًا، بدل التركيز المستمر على ما لا تمنحه.

الاستراتيجية السادسة والأخيرة تتعلّق بدور التعاطف، الاستماع، والاتساق في خلق علاقات تدوم.تُظهر المراجعات المنهجية حول الصداقة والرفاه ان اهم ما يميّز الصديق الجيد ليس التشابه في الاهتمامات بقدر ما هو الإحساس بأننا"مسموعون ومفهومون"؛ اي ان الآخر يمنحنا انتباهًا حقيقيًا، يتذكّر تفاصيلنا، ويعامل تجاربنا بجدية(Pezirkianidis et al.,2023).التعاطف هنا ليس مجرد تعبير عن الشفقة، بل قدرة على رؤية العالم من زاوية الصديق، والاعتراف بمشاعره حتى حين نختلف معه.اما الاتساق فيعني ان سلوكنا في العلاقة–من حيث الوجود في المواقف المهمة، واحترام الاسرار، والوفاء بالوعود الصغيرة–يتكرّر عبر الزمن بحيث يصبح مصدرًا للأمان.في سن النضج، حيث تكثر حالات الخذلان، تصبح هذه العناصر الثلاثة(التعاطف، الاستماع، الاتساق)"عملة نادرة"ترفع من قيمة الصداقة وتؤهلها للاستمرار رغم ضغوط الحياة.

ينتهي هذا المحور بالدعوة إلى مراجعة مفهوم الصداقة نفسه.بدلاً من تعريفها كعلاقة مثالية تستوفي قائمة طويلة من الشروط، يمكن فهمها كعلاقة مرنة تتكيّف مع ايقاع حياة البالغين:اصدقاء نراهم مرات قليلة في العام لكن اللقاء معهم كثيف المعنى؛ اصدقاء نلتقي في فضاءات رقمية لكن تربطنا معهم مشاريع ومعانٍ مشتركة؛ واصدقاء لعبوا دورًا محوريًا في مرحلة ما ثم تراجع حضورهم دون ان يعني ذلك فشل العلاقة بالكامل.هذا الفهم المرن يخفّف من شعور الذنب والخيبة، ويفتح الباب امام رؤية الصداقة كشبكة متغيّرة من الدوائر:قريبة، متوسطة، وبعيدة، جميعها تلعب ادوارًا مختلفة في دعمنا النفسي والاجتماعي.

خاتمة

الصداقة بعد الثلاثين ليست بالضرورة"ندرة مأساوية"بقدر ما هي انعكاس لتحوّل عميق في بنية الحياة والذات:مسؤوليات متراكمة، طاقة اجتماعية محدودة، ووعي اكبر بما نريده من العلاقات.هذا التحوّل يمكن ان يقود إلى عزلة مؤلمة اذا تُرك للعوامل البنيوية وحدها؛ لكنه يمكن ايضا ان يتحوّل إلى فرصة لإعادة تصميم دوائرنا الاجتماعية بوعي اكبر، بحيث ننتقل من الصداقات المفروضة بحكم المكان والزمان إلى صداقات مختارة تعكس قيمنا واحتياجاتنا الاكثر عمقًا.ما تقترحه هذه الورقة هو ان ندرة الصداقة لا تُحلّ فقط بالتحايل على الزمن او استعادة الماضي؛ بل بتطوير مهارات عملية واستراتيجيات نفسية:خلق مساحات مشتركة جديدة، تبنّي الانفتاح المقصود، احياء العلاقات القديمة بحكمة، الاستثمار التدريجي، احترام الحدود، وتغذية التعاطف والاتساق في علاقاتنا القائمة.

في عالم يتزايد فيه الشعور بالوحدة، وتكشف فيه الابحاث عن آثارها الصحية الخطيرة، تصبح الصداقة مشروعًا اخلاقيًا وصحيًا في آن معًا:طريقة لحماية ذواتنا من التآكل، ولإعادة ربط حياتنا الفردية بنسيج اجتماعي اوسع يمنحها المعنى.اعادة بناء الدوائر بعد الثلاثين ليست مهمة سهلة، لكنها ممكنة حين نعامل الصداقة كعلاقة حيّة تحتاج إلى وعي، وجهد، ومرونة–لا كمعجزة عفوية تحدث وحدها أو لا تحدث اطلاقًا.

 

الوسائط والمرفقات

الفيديوهات (1)
التحميلات
الصداقة بعد الثلاثين_ لماذا تصبح نادرة؟ وكيف نعيد بناء دوائرنا؟.pdf
167.9 KB