تطرح واجهات الدماغ–الحاسوب اليوم أسئلةً تتجاوز حدود المختبرات الطبية والهندسية لتصل إلى قلب النقاش الفلسفي والاجتماعي:هل نحن بصدد تقنية تحرّر الإنسان من قيود الجسد، أم أننا نخطو خطوة أولى نحو أنظمة رقمية قادرة على الوصول إلى أعمق طبقات أفكارنا؟ وتجسِّد شركات مثل Neuralink وParadromics هذا التحوّل المتسارع، إذ انتقلت خلال سنوات قليلة من التجارب على الحيوانات إلى تجارب سريرية على أشخاص مصابين بالشلل أو متلازمة«الانحباس»، بهدف استعادة القدرة على التواصل والتحكم بالأجهزة عبر الإشارات العصبية، مع توقعات حقيقية بطرح هذه التقنيات تجاريًا قبل عام 2030(Clinical Trials Arena، 2024؛ Forbes، 2024).
من الناحية التقنية، تمثل التطورات الحديثة نقلة نوعية في مجال الطب التأهيلي.فقد بدأت Neuralink، على سبيل المثال، دراستها السريرية الأولى المسماة PRIME لتقييم فاعلية غرسة N1 اللاسلكية في مساعدة المصابين بالشلل الرباعي على التحكم بالحاسوب أو الذراع الآلية بمجرد التفكير، وذلك بعد حصول الشركة على الموافقات التنظيمية اللازمة في الولايات المتحدة وتوسّعها نحو كندا وبريطانيا(ClinicalTrials.gov، 2024).وتشير تحديثات الشركة إلى أن عددًا من المشاركين باتوا قادرين على تحريك المؤشر، التفاعل عبر الإنترنت، بل وممارسة بعض الأنشطة الرقمية بصورة مستقلة؛ وهو ما ظهر جليًا في حالة نولاند آربو الذي استعاد قدرته على التفاعل اليومي رغم إصابته بالشلل الكامل(Neuralink، 2025؛ Fitzpatrick، 2024).
وفي مسارٍ موازٍ، حصلت شركة Paradromics على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية لإطلاق دراسة Connect-One الخاصة بجهاز Connexus، وهو جهاز مصمم لقراءة إشارات قشرة الكلام وتحويلها إلى نص أو صوت لدى الأشخاص المصابين باضطرابات عصبية شديدة مثل ALS أو السكتات الدماغية(Paradromics، 2025).وتُظهر تقارير تحليلية منClinical Trials Arenaإمكانية وصول هذه الأنظمة إلى مرحلة التسويق الأولي قبل نهاية العقد، وهو ما يدعمه خطاب استثماري متزايد يشير إلى سوق قد تتجاوز قيمتها مئات المليارات(Rao، 2024).
انطلاقًا من هذه التطورات، يمكن النظر إلى واجهات الدماغ–الحاسوب باعتبارها أحد أهم الإنجازات الإنسانية في مجال تمكين ذوي الإعاقة.فقد أثبتت دراسات حديثة أن الأنظمة اللاسلكية للـBCI تمكّن الأشخاص المصابين بالشلل الكامل من استخدام الحاسوب والكتابة والتواصل باستقلالية، حتى في المنزل ومن دون إشراف تقني مباشر، مما يحوّل الإعاقة من حالة عزلة إلى قدرة جديدة على التفاعل الاجتماعي(Livanis وآخرون، 2024).كما أن الأبحاث المتعلقة بفك شيفرة الكلام من القشرة الدماغية تُظهر إمكانية استعادة«الصوت»لدى أشخاص فقدوه منذ سنوات، وذلك باستخدام خوارزميات تعلّم عميق تتعامل مع الإشارة العصبية مباشرة وتحولها إلى كلمات منطوقة أو مكتوبة في الزمن الحقيقي(Livanis وآخرون، 2024؛ Bocquelet، 2016).وبذلك، تميل الأدبيات الأخلاقية إلى اعتبار الاستخدام العلاجي لهذه التقنيات إجراءً مشروعًا وعادلاً، طالما أنه موجَّه لتعويض عجز قائم ويقوم على موافقة مستنيرة وحماية طبية كافية(McGee، 2014).
إلا أن الحد الفاصل بين«استعادة الوظائف»و«تعزيز الإنسان»ليس تقنيًا بقدر ما هو اجتماعي وسياسي.فالرؤية التي تعرضها Neuralink، على سبيل المثال، تتجاوز علاج الإعاقة لتصل إلى«فتح الإمكانات البشرية»وخلق تواصل مباشر واسع النطاق بين الدماغ والذكاء الاصطناعي، كما يعرضها إيلون ماسك الذي يتحدث عن ملايين المستخدمين المعزَّزين بحلول 2030(Fitzpatrick، 2024).وتقدم تقارير علمية واستثمارية متاحة عبر Wiley Online Library وForbes تصورًا لواجهات الدماغ–الحاسوب بوصفها أدوات لدمج الإنسان بالآلة في التعليم والعمل والترفيه، وليس فقط في غرف العمليات(Wiley Online Library، 2016؛ Forbes، 2024).ومن هذا المنظور يصبح المرضى المصابون بالشلل مجرد«مرحلة أولى»في سلسلة من الاستخدامات الأوسع التي تستهدف مستخدمين أصحاء يسعون إلى ذاكرة أقوى، أو تركيز أعلى، أو اتصال مباشر بالمنصات.وهنا تظهر إشكاليات عدالة الوصول:من سيحصل على هذا التعزيز؟ وهل ستظهر طبقة من«البشر المعزّزين»في مقابل أغلبية لا تمتلك القدرة على تبني هذه التقنيات(Yang، 2025)؟
ترتبط هذه التحولات بسؤال محوري حول الخصوصية:ماذا يعني أن تصبح الإشارات الدماغية قابلة للقراءة والتخزين والمعالجة؟ فبيانات الدماغ تختلف جذريًا عن البيانات الصحية التقليدية، لأنها لا تصف فقط ما يحدث للجسد، بل يمكن أن تكشف عن الانتباه والمشاعر والنوايا وربما التفضيلات السياسية والدينية إذا جُمعت وحُلّلت على مدى طويل(European Data Protection Supervisor، 2024؛ Yang، 2025).ولهذا تحدث باحثون قانونيون عن ضرورة الاعتراف بـ«حقوق عصبية»جديدة لحماية النشاط الدماغي من الاستخدام التجاري أو الحكومي، مشيرين إلى أن تشريعات مثل GDPR لا تزال عاجزة عن حماية هذا النوع المعقد من البيانات(EDPS، 2024).وتظهر مراجعات بحثية أن بعض شركات«النيوروتِك»الاستهلاكية قد تشارك البيانات الملتقطة مع أطراف أخرى لأغراض تسويقية أو تدريب نماذج ذكاء اصطناعي، ما يزيد القلق من فقدان التحكم في«الذات الخاصة»(Livanis وآخرون، 2024).
ويتقاطع سؤال الخصوصية مع سؤال آخر لا يقل أهمية:أين ينتهي العلاج الطبي ويبدأ«التعديل على الإنسان»؟ فالأدبيات المتخصصة، مثل تلك المنشورة عبر Wiley Online Library، تميز بين ثلاث فئات:استعادة وظيفة مفقودة، تحسين وظيفة طبيعية، ثم خلق قدرات جديدة بالكامل(Bocquelet، 2016؛ McGee، 2014).وفي حين يُعد المستوى الأول مشروعًا ضمن ممارسات الطب، يصبح المستويان الثاني والثالث مجالًا للجدل الأخلاقي، خاصة مع احتمال أن تؤدي التقنية إلى«طبْيَنة»صفات بشرية طبيعية كالنسيان أو القلق.ومع دخول جهات عسكرية وتجارية كبرى على خط التمويل، تزداد المخاوف من فرض استخدام هذه الواجهات في قطاعات معينة كالجيوش أو الصناعات عالية التنافسية(Livanis وآخرون، 2024).
ومن هنا يبرز سؤال البحث الأساسي:إلى أي حد تمثل واجهات الدماغ–الحاسوب تحررًا من قيود الجسد، أو بداية لإخضاع الإنسان لنظم رقمية جديدة تمتلك القدرة على الوصول حتى إلى أفكاره الأولية؟ فعلى المستوى الفردي، لا شك أن الأشخاص الذين استعادوا القدرة على التواصل عبر غرسات Neuralink أو Paradromics قد عاشوا شكلًا حقيقيًا من التحرر، إذ انتقلوا من الاعتمادية المطلقة إلى التعبير الذاتي وصنع القرار(Neuralink، 2025).لكن على المستوى البنيوي، يمكن لهذه الحرية أن تتحول إلى تبعية جديدة، لأن الواجهة الدماغية لا تعمل إلا ضمن نظام تقني مغلق يخضع للتحديثات البرمجية، ولا يمكن استخدامه دون اتصال بخوادم الشركة، فضلًا عن مخاطر الاختراق أو التلاعب بالإشارات العصبية(Yang، 2025).وعند هذه النقطة، يصبح التحرر من الجسد مرتبطًا بالاستسلام لشبكات رقمية تملك«مفاتيح»العقل.
ختامًا، يمكن القول إن واجهات الدماغ–الحاسوب تحمل في جوهرها توترًا لا يمكن حسمه تقنيًا:فهي في آن واحد أداة تمكين عميقة لذوي الإعاقة، وبذرة مشروع محتمل لإنسان معزَّز ومراقَب.وسيحدد الإطار القانوني والسياسي الذي ستُحاط به هذه التقنيات مستقبلها الحقيقي:هل ستُعامل بيانات الدماغ باعتبارها حيزًا مصونًا؟ وهل ستُفرض معايير شفافة تمنع الاحتكار وتحصر جمع البيانات في الأغراض العلاجية؟ أم سنشهد تكرارًا لسيناريو المنصات الرقمية التي أصبحت جزءًا لا ينفصل عن حياتنا النفسية؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة هي التي ستحدد ما إذا كانت واجهات الدماغ–الحاسوب بداية عصر تحرّر جديد، أم خطوة نحو منظومات رقمية تملك حتى أفكارنا الخام.

التعليقات